الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - خيار العيب مركّب إضافيّ من الكلمتين " خيار وعيب ". أمّا كلمة " خيار " فقد سبق عند تعريف الخيار بوجه عامّ بيان معناها اللّغويّ والاصطلاحيّ أيضاً. أمّا كلمة عيب، فهي في اللّغة مصدر الفعل عاب، يقال: عاب المتاع يعيب عيباً: أي صار ذا عيب، وجمعه عيوب وأعياب. قال الفيّوميّ: استعمل العيب اسماً وجمع على عيوب. والمعيب مكان العيب وزمانه. وأمّا في الاصطلاح فللفقهاء تعاريف متعدّدة للعيب، منها: ما عرّفه به ابن نجيم وابن الهمام بأنّه: ما يخلو عنه أصل الفطرة السّليمة ممّا يعدّ به ناقصاً. وعرّفه ابن رشد بأنّه: ما نقص عن الخلقة الطّبيعيّة أو عن الخلق الشّرعيّ نقصاناً له تأثير في ثمن المبيع. وعرّفه الغزاليّ بأنّه: كلّ وصف مذموم اقتضى العرف سلامة المبيع عنه غالباً.
2 - لا خلاف بين الفقهاء في الرّدّ بالعيب في الجملة. واستدلّوا بأدلّة من الكتاب والسّنّة والقياس: فمن الكتاب: استدلّوا بعموم قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} والوجه في الاستدلال أنّ العلم بالعيب في المبيع مناف للرّضا المشروط في العقود، فالعقد الملتبس بالعيب تجارة عن غير تراض. فالآية تدلّ على أنّ العاقد لا يلزمه المعقود عليه المعيب، بل له ردّه والاعتراض، بقطع النّظر عن طريقة الرّدّ والإصلاح لذلك الخلل في تكافؤ المبادلة. ومن السّنّة: عن عائشة رضي الله عنها «أنّ رجلاً ابتاع غلاماً، فاستغلّه، ثمّ وجد بهعيباً فردّه بالعيب، فقال البائع: غلّة عبدي، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم الغلّة بالضّمان» وفي رواية: «الخراج بالضّمان». واستدلّ الكاسانيّ بحديث المصرّاة على مشروعيّة خيار العيب. واستدلّوا بالقياس على الخيار في المصرّاة، والجامع بينهما عدم حصول المبيع السّليم، لأنّه بذل الثّمن ليسلّم له مبيع سليم ولم يسلّم له ذلك. قال ابن قدامة: إثبات النّبيّ الخيار بالتّصرية تنبيه على ثبوته بالعيب.
3 - وجوبه على العاقد: ذهب الفقهاء إلى أنّ على البائع إعلام المشتري بالعيب الّذي في مبيعه، وذلك فيما يثبت فيه خيار، أمّا إن لم يكن مسبّباً للخيار فترك التّعرّض له ليس من التّدليس المحرّم كما قال إمام الحرمين، وقد صرّح هؤلاء بأنّ الإعلام بالعيب مطلوب على سبيل الوجوب، فإذا لم يبيّنه فهو آثم عاص، ولا خلاف فيه بين العلماء - على ما ذكر ابن قدامة والسّبكيّ وغيرهما - وجعله ابن رشد الجدّ من أكل المال بالباطل وتحريمه معروف. ودلّ على هذا عدّة أحاديث، منها: حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «المسلم أخو المسلم، ولا يحلّ لمسلم باع من أخيه بيعًا وفيه عيب إلاّ بيّنه له». وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لا يحلّ لأحد يبيع شيئاً إلاّ يبيّن ما فيه، ولا يحلّ لمن يعلم ذلك إلاّ بيّنه». وهناك أحاديث أخرى تشهد للمعنى السّابق لورودها بتحريم الغشّ، وكتمان العيب غشّ - كما صرّح السّبكيّ - وذلك كحديث أبي هريرة: «من غشّنا فليس منّا» أخرجه مسلم وهو وارد في قصّة هي: «أنّه صلى الله عليه وسلم مرّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطّعام؟ قال: أصابته السّماء يا رسول اللّه يعني المطر قال: أفلا جعلته فوق الطّعام كي يراه النّاس، من غشّ فليس منّي». وهذا الحديث يشير إلى الإعلام بالعيب بالفعل المجزئ عن صريح القول: وهل يظلّ الإثم لو رضي المشتري بالعيب بعد ظهوره، ذلك ما جزم به الشّوكانيّ في الدّرر البهيّة قائلاً: " إن رضيه فقد أثم البائع، وصحّ البيع ".
4 - البيع دون بيان العيب المسبّب للخيار صحيح مع المعصية عند جمهور الفقهاء. واستدلّوا بحديث المصرّاة المثبت الخيار للمشتري، وذلك مبنيّ على صحّة البيع، والتّصرية عيب، وهاهنا التّدليس للعيب وكتمانه لا يبطل البيع، لأنّ النّهي لمعنىً في العقد، فلا يمنع صحّة العقد، بخلاف ما لو كان متوجّهاً إلى المعقود عليه لمعنىً فيه، أو لاستلزامه أمراً ممنوعاً، أمّا هنا فالعقد ليس منهيّاً عنه أصلاً " لا لمعنىً فيه ولا لاستلزامه ممنوعاً " بل قد تحقّق بكتمان العيب ما هو منهيّ عنه وهو الغشّ، وتلك أدنى مراتب النّهي الثّلاث فلا إثم في العقد، بل الإثم في الكتمان، لأنّ النّهي عن الكتمان لا عن العقد. وممّا هو صريح في الباب من فعل الصّحابة ما أخرجه البخاريّ أنّ ابن عمر اشترى إبلاً هيماً، فلمّا أخبر بعيبها رضيها وأمضى العقد.
5 - وجوب الإعلام بالعيب لا يقتصر على البائع، بل يمتدّ إلى كلّ من علم بالعيب لحديث واثلة - والقصّة المرويّة بأنّه فعل ذلك حين كتم البائع العيب - والأحاديث الأخرى العديدة في وجوب النّصح، وقد نصّ على هذا من الشّافعيّة الشّيرازيّ، وابن أبي عصرون، والنّوويّ، وقال السّبكيّ: وذلك ممّا لا أظنّ فيه خلافاً. ويتأكّد الوجوب حيث ينفرد الأجنبيّ بعلم العيب دون البائع نفسه، أمّا إن كانا يعلمانه فالوجوب حيث يعلم، أو يظنّ، أو يتوهّم أنّ البائع لم يعلمه به، أمّا إن علم قيام البائع بذلك - أو غلب على ظنّه أنّه يقوم بذلك لتديّنه - فهناك احتمالان أحدهما: عدم الوجوب خشية إيغار صدر البائع لتوهّمه سوء الظّنّ به، والاحتمال الثّاني: وجوب الاستفسار من المشتري هل أعلمه البائع بالعيب. ووقت الإعلام في حقّ البائع والأجنبيّ قبل البيع، ليكفّ عن الشّراء، فإن لم يكن الأجنبيّ حاضراً، أو لم يتيسّر له فبعده، ليتمكّن المشتري من الرّدّ بالعيب.
الحكمة في مشروعيّة خيار العيب دفع الضّرر عن العاقد " المشتري " لأنّه رضي بالمبادلة بطريق البيع، والبيع يقتضي سلامة المبيع عن العيب، ووصف السّلامة يفوت بوجود العيب، فعند فواته يتخيّر، لأنّ الرّضا داخل في حقيقة البيع، وعند فواته ينتفي الرّضا، فيتضرّر بلزوم ما لا يرضى به.
6 - يثبت خيار العيب للمشتري بشرائط ثلاث: أ - ظهور عيب معتبر. ب - أن يكون المشتري غير عالم بالعيب عند العقد. ج - أن لا يكون البائع قد اشترط البراءة من العيب.
7 - المراد بهذه الشّريطة بروز العيب وانكشافه بعدما كان خفيّاً عن المشتري، فلا حكم للعيب قبل ظهوره، لأنّ المفترض أنّه خفيّ ومجهول للمشتري فكأنّ المبيع كان سالماً - في نظره - حتّى وجد فيه عيباً. والمراد بكونه معتبراً أن يكون عيباً بالمعنى المصطلح عليه فقهاً - لا مطلق العيب لغةً - وأنّ ذلك لا يتمّ إلاّ بأن يتحقّق فيه أمران هما: أ - كون العيب مؤثّراً في نقص القيمة أو فوات غرض صحيح. ب - كون الأصل في جنس المعقود عليه السّلامة من العيب.
8 - ذكر الحنفيّة هذا الضّابط للعيب: هو كلّ ما يوجب نقصاناً في القيمة عند أهل الخبرة سواء نقّص العين أم لم ينقّصها. وقد يعبّر بعض الحنفيّة - وغيرهم - بالثّمن بدل القيمة، وهي المرادة، قال ابن عابدين: لمّا كان الثّمن في الغالب مساوياً للقيمة عبّروا به عنها. والعيب الفاحش في المهر كلّ ما يخرجه من الجيّد إلى الوسط، ومن الوسط إلى الرّديء. وإنّما لا يردّ المهر بيسير العيب إذا لم يكن كيليّاً أو وزنيّاً، وأمّا الكيليّ والوزنيّ فيردّ بيسيره أيضاً. قال في " مختار الفتاوى ": والحدّ الفاصل فيه: كلّ عيب يدخل تحت تقويم المقوّمين، بأن يقوّمه مقوّم صحيحًا بألف، ومع العيب بأقلّ، ويقوّمه مقوّم آخر مع هذا العيب بألف فهو يسير، وما لا يدخل تحت تقويم المقوّمين بأن اتّفق المقوّمون في تقويمه صحيحاً بألف، واتّفقوا في تقويمه مع هذا بأقلّ فهو فاحش. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّ خيار العيب لا يدخل في الزّواج، وقال محمّد: للمرأة حقّ الفسخ بعيوب ثلاثة: الجنون، والجذام، والبرص، لأنّ المرأة لا تطيق المقام مع زوج فيه أحدها، وجاء في الزّيلعيّ والبدائع أنّ ذكر هذه الأشياء على سبيل التّمثيل، وأنّ كلّ عيب تتضرّر به المرأة تستحقّ به فسخ العقد. وذهب الأئمّة الثّلاثة إلى أنّ التّفريق بسبب العيب، ولكن بعيوب تخلّ بمقصد الزّواج كالعيوب الثّلاثة المذكورة. وتفصيل ذلك في مصطلح: (نكاح). وضابطه عند الشّافعيّة: المنقص للقيمة أو العين نقصاناً يفوت به غرض صحيح، بشرط أن يكون الغالب في أمثال المبيع عدمه. وقد اشتمل هذا الضّابط على العنصرين المقوّمين له في حين خلا منه تعريف الحنفيّة، وقال السّبكيّ: إنّ هذا الضّابط يرجّح عن ضوابط كثيرة أحيل فيها على العرف دون ضبط العيب، ومجرّد الإحالة على العرف قد يقع منها في بعض الأوقات إلباس. وأنّ اشتراط فوات غرض صحيح هو للاحتراز عن النّقص اليسير في فخذ شاة أو ساقها بشكل لا يورث شيئاً، ولا يفوت به غرض صحّة الأضحيّة، بخلاف ما لو قطع من أذنها ما يمنع التّضحية بها. ويرى الحنابلة أنّ نقص العين وحده كاف ولو لم تنقص به القيمة، بل زادت، وبالمقابل إنّ من العيب نقص القيمة " أو الماليّة بعبارة ابن قدامة " عادةً في عرف التّجّار وإن لم تنقص عينه، على أن تكون تلك نقيصةً يقتضي العرف سلامة المبيع عنها غالباً، لأنّ المبيع إنّما صار محلّاً للعقد باعتبار صفة الماليّة فما يوجب نقصاً فيها يكون عيباً. وقد ذكر المالكيّة أنّ ممّا يعدّ عيباً، البيت الّذي قتل فيه إنسان وأصبح يوحش ساكنيه وتنفر نفوسهم عنه، ويأبى العيال والأولاد سكناه وتتراءى لهم بسبب تلك الوحشة خيالات شيطانيّة مفزعة مقلقة. وقد جعلوه ممّا ينفر النّاس عنه، وتقلّ الرّغبة فيه، فيبخس ثمنه، فهو من تطبيقات نقص القيمة.
9 - المراد أنّ السّلامة من ذلك الوصف العارض هي الأصل في نوع المبيع وأمثاله، أمّا إن كان من المألوف وجوده في أمثاله، فإنّه لا يعدّ عيباً معتبراً. وقد اختلفت تعابير الفقهاء عن هذا الأمر مع اتّفاقهم عليه. وقد استدركه ابن عابدين على ضابط الحنفيّة من الشّافعيّة قائلاً: وقواعدنا لا تأباه. وضربوا لذلك مثلاً بوجود الثّفل في الزّيت بالحدّ المعتاد، فمن تعابير الفقهاء في اعتماد هذا الأمر، ليكون العيب معتبراً، التّعبير بكون الغالب في جنس المبيع عدمه، أو اقتضاء العرف سلامة المبيع عنه غالباً، أو ما خالف الخلقة الأصليّة، أو أصل الخلقة، أو الخروج عن المجرى الطّبيعيّ، أو ما نقص عن الخلقة الأصليّة أو الخلق الشّرعيّ " كما يقول ابن رشد "، أو ما خالف المعتاد، أو ما تخلو عنه أصل الفطرة السّليمة.
10 - تواردت نصوص الفقهاء على أنّ المرجع في كون العيب مؤثّراً " أي مؤدّياً إلى نقصان القيمة، وكون الأصل في جنس المبيع عدمه " إلى أهل الخبرة بذلك. قال ابن الهمام: وهم التّجّار، أو أرباب الصّنائع إن كان الشّيء من المصنوعات، وقال الكاسانيّ: التّعويل في الباب على عرف التّجّار، فما نقّص الثّمن " أي القيمة " في عرفهم فهو عيب يوجب الخيار. وقال الحطّاب: التّعويل في اعتبار الشّيء عيباً أو عدمه هو على عرف التّجّار.. وإن كان عامّة النّاس من غير التّجّار يرونه، أو لا يرونه. ولا شكّ أنّ ذكر التّجّار ليس تخصيصاً، بل المراد أهل الخبرة في كلّ شيء بحسبه. وهل يشترط إجماع أهل الخبرة على الحكم بكون الشّيء عيباً؟ هذا ما ذهب إليه الحنفيّة، فقد ذكر ابن عابدين أنّه إذا اختلف التّجّار فقال بعضهم: إنّه عيب، وقال بعضهم: ليس بعيب لم يكن له الرّدّ، إذ لم يكن عيباً بيّناً عند الكلّ. وفي مذهب الشّافعيّة لا يطلب هذا الإجماع بل التّعدّد غير مطلوب على ما نقل السّبكيّ عن صاحبي التّهذيب والعدّة، والاكتفاء بقول واحد، وعن صاحب التّتمّة لا بدّ من شهادة اثنين. ثمّ قال: لو اختلفا هل هو عيب وليس هناك من يرجع إليه فالقول قول البائع مع يمينه. أ - أن يكون العيب في محلّ العقد نفسه: 11 - ففي البيع لا بدّ أن يكون في نفس المبيع، وهذا طبيعيّ، فالعيوب في غير المبيع لا أثر لها كالعيوب في شخص العاقد الآخر، أو العيب في الرّهن المقدّم، أو الكفيل ونحوه.. وضرب له ابن عابدين مثلاً بما إذا باع حقّ الكدك " من حقوق الارتفاق في العقار " في حانوت لغيره فأخبر المشتري أنّ أجرة الحانوت كذا فظهر أنّها أكثر، فليس له الرّدّ بهذا السّبب، لأنّ هذا ليس بعيب في المبيع. ب - أن يكون العيب قديماً: 12 - والمراد بالقديم ما قارن العقد أو حدث قبل القبض. فالمقارن مجمع عليه، ودليل ما وجد قبل القبض، أنّ المبيع من ضمان البائع فكذا جزؤه وصفته. أمّا إذا لم يكن العيب قديماً بل حدث بعد التّسليم فلا يثبت الخيار، لأنّه لفوات صفة السّلامة المشروطة دلالةً في العقد، وقد حصل المعقود عليه سليماً في يد المشتري، إذ العيب لم يحدث إلاّ بعد التّسليم. قال المرغينانيّ: العيب قد يحدث بعد البيع قبل التّسليم وهو يوجب الرّدّ. وقد خالف في هذا المالكيّة فأخذوا بقضيّة العهدة: وهي عهدتان، الأولى في عيوب الرّقيق ويقولون فيها بعهدة الثّلاث، والثّانية في عيوب الجنون والجذام والبرص، ويقولون فيها بعهدة السّنّة، وتفصيله في مصطلح: (عهدة). ويستثنى من هذه الشّريطة عقد الإجارة، عند الحنفيّة فقد نصّوا على أنّها تفسخ بعيب حادث وذلك لأنّها عقد على المنافع، وهي تحدث شيئاً فشيئاً، ووجود العيب يحول دون الانتفاع فيعتبر ولو كان حادثاً. ج - أن لا يكون العيب بفعل المشتري قبل القبض: 13 - يعتبر في منزلة العيب الحادث عند المشتري ما لو كان العيب قديماً " حصل قبل القبض " ولكنّه وجد بفعل وقع على المبيع من المشتري قبل أن يقبضه. وهذا القيد كالاستثناء على ما قبله. ويدلّ عليه جملة من الفروع الّتي ذكرها الشّافعيّة - وقواعد غيرهم لا تأباه - وقد صرّح الشّيرازيّ بأنّه حينئذ يفقد العيب أثره. د - أن يكون العيب باقياً بعد التّسليم ومستمرّاً حتّى الرّدّ: 14 - والمراد من بقائه أن يثبت عند المشتري بعد التّسليم، إمّا بأن يظلّ موجوداً في محلّ العقد بعد القبض، وإمّا بأن يخفى عند التّسليم ثمّ يظهر ثانيةً فلا يكتفى بثبوت قدمه عند البائع وظهوره قبل العقد عنده فقط، كما لا يكتفى بظهوره بعد العقد ثمّ خفائه بعد التّسليم، بل لا بدّ من أن يعود للظّهور ثانيةً عند المشتري بعد التّسليم ويستمرّ باقيًا إلى حين الرّدّ. ففي شريطة البقاء - أو المعاودة - احتراز عن العيب القديم إذا ظهر عند المشتري بعد التّسليم، وعزم على الرّدّ، ثمّ زال العيب قبل الرّدّ. لأنّ الرّدّ إنّما هو للعيب - فهو سببه - والمعقود عليه أضحى سليماً فلا قيام للخيار مع سلامته. هكذا الحكم عند الحنفيّة والشّافعيّة حيث صرّح الكاسانيّ بأنّ العيب الثّابت عند البائع محتمل الزّوال قابل الارتفاع، فلا يثبت حقّ الرّدّ بالاحتمال، فلا بدّ في صفة العيب من ثبوتها عند المشتري ليعلم أنّها قائمة. وذكر الشّروانيّ من الشّافعيّة أنّ العيب المعتبر هو ما قارن العقد، أو حدث قبل القبض، وقد بقي إلى الفسخ. هـ - أن لا تمكن إزالة العيب بلا مشقّة: 15 - أمّا لو أمكن ذلك فلا يقوم حقّ الخيار، وذلك كما لو كان على القماش طابع المصنع مثلاً، وكان ممّا لا يضرّه الغسل، أو يمكن جعله من جهة البطانة، وكما لو كان بالثّوب نجاسة وهو ممّا لا يفسد بالغسل ولا ينتقص، للتّمكّن من غسله. وكثيراً ما يهوّن البائع من شأن العيب وأنّه سهل الإزالة، أو لا يكلّف إلاّ قليلاً لإصلاحه ثمّ يظهر العكس فما مصير خيار العيب بعد الرّضا من المشتري؟ نصّ المالكيّة على ثبوت خيار الرّدّ للمشتري عندئذ ما لم يحدث لديه عيب فيتخيّر بين الرّدّ والأرش، جاء في نوازل الونشريسيّ أنّه سئل عمّن اشترى دابّةً وبها جرح رمح، فرضي بعدما قال البائع له هو جرح لا يضرّها، جرح قد برىء، فتغيّب هذا المشتري نحواً من سنة ثمّ ظهر الجرح فادحاً. " فأجاب " إن لم يحدث بها عنده عيب مفسد فهو مخيّر بين أن يردّها أو يتماسك ولا شيء له من قيمة العيب، فإن حدث عند المشتري عيب بعد، فإن شاء ردّها وقيمة العيب الحادث عنده، وإن شاء أمسكها وأخذ قيمة العيب بين الصّحّة والدّاء.
16 - إثبات العيب يختلف باختلاف العيب من حيث درجة الظّهور. والعيب أربعة أنواع: أ - عيب ظاهر مشاهد. ب - عيب باطن خفيّ، لا يعرفه إلاّ أهل الخبرة. ج - عيب لا يطّلع عليه إلاّ النّساء. د - عيب لا يعرف بالمشاهدة المجرّدة بل يحتاج إلى التّجربة والامتحان عند الخصومة. أ - العيب المشاهد: لا حاجة لتكليف المشتري إقامة البيّنة على وجود العيب عنده، لكونه ثابتاً بالعيان والمشاهدة، وللمشتري حقّ خصومة البائع بسبب هذا العيب، وللقاضي حينئذ النّظر في الأمر. فإن كان العيب لا يحدث مثله عادةً في يد المشتري، كالأصبع الزّائدة ونحوها، فإنّه يردّ على البائع، ولا يكلّف المشتري بإقامة البيّنة على ثبوت العيب عند البائع لتيقّن ثبوته عنده، إلاّ أن يدّعي البائع الرّضا به والإبراء عنه، فتطلب البيّنة منه. فإن أقام البيّنة عليه قضي بذلك، وإلاّ استحلف المشتري على دعواه، فإن نكل " أحجم عن اليمين " لم يردّ المبيع المعيب على البائع، وإن حلف ردّ على البائع. وأمّا إن كان العيب ممّا يجوز أن يحدث مثله في يد المشتري فإنّه يستحلف باللّه على البتات، أي بشكل باتّ قاطع جازم، لا على مجرّد نفي العلم: " لقد بعته وسلّمته، وما به هذا العيب، لا عند البيع ولا عند التّسليم ". ب - العيب إذا كان باطنًا خفيًّا لا يعرفه إلاّ المختصّون كالأطبّاء والبياطرة مثل وجع الكبد والطّحال ونحوه، فإنّه يثبت لممارسة حقّ الخصومة بشهادة رجلين مسلمين، أو رجل مسلم عدل من أهل الخبرة. ج - العيب الّذي لا يطّلع عليه إلاّ النّساء: يرجع القاضي فيه إلى قول النّساء بعد أن يرين العيب، ولا يشترط العدد فيهنّ، بل يكفي قول امرأة واحدة عدل، والثّنتان أحوط، لأنّ قول المرأة فيما لا يطّلع عليه الرّجال حجّة في الشّرع، كشهادة القابلة في النّسب. فإذا شهدت المرأة على العيب، فهناك روايات متعدّدة عن كلّ واحد من صاحبي أبي حنيفة، ومحصّلها أنّ شهادة المرأة الواحدة أو الثّنتين يثبت بها العيب الّذي لا يطّلع عليه الرّجال في حقّ توجّه الخصومة، لا في حقّ الرّدّ. د - العيب الّذي ليس بمشاهد عند الخصومة ولا يعرف إلاّ بالتّجربة: كالإباق: فلا يثبت إلاّ بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين. وإذا لم يستطع المشتري إثبات العيب عنده، هل يستحلف القاضي البائع على ذلك أم لا؟ قال الصّاحبان: يستحلف. وقال أبو حنيفة: لا يستحلف. وكيفيّة استحلاف البائع: هي أن يحلف على العلم، لا على البتات أي الجزم والقطع فيقول: باللّه ما يعلم أنّ هذا العيب موجود في هذا الشّيء الآن، والسّبب في ذلك: هو أنّه يحلف على غير فعله، ومن حلف على غير فعله، يحلف على العلم، لأنّه لا علم له بما ليس بفعله، أمّا من حلف على فعل نفسه فيحلف على البتات " أي بصيغة البتّ والجزم "، فإن نكل أي البائع عن اليمين، ثبت العيب عند المشتري، فيثبت له حقّ الخصومة، وإن حلف برّئ.
17 - فلا بدّ أن يكون المشتري غير عالم بالعيب، قال السّبكيّ: " عند العلم لا خيار ". وسواء في العلم المحترز عنه أن يكون عند العقد، أو بعده عند القبض، فلو اشترى شيئاً وهو عالم بعيبه عند العقد، أو اشتراه جاهلاً بعيبه ثمّ علم به عند القبض فقبضه عالماً بعيبه لم يكن له حقّ الخيار، لأنّ إقدامه على الشّراء مع علمه بالعيب رضاً به دلالةً، وكذلك علمه عند القبض، لأنّ تمام الصّفقة متعلّق بالقبض، فكان العلم عنده كالعلم عند العقد، فكان عليه لبقاء حقّه في الخيار أن يمتنع من القبض عند علمه بالعيب، فلمّا لم يفعل كان راضيًا به. قال ابن الهمام: " العلم بالعيب عند البيع أو القبض مسقط للرّدّ والأرش ". 18 - ومن المقرّر أنّ خيار العيب إنّما هو للعيوب الخفيّة الّتي لا تدرك بالنّظر، أمّا لو كان العيب بارزاً لا يخفى عند الرّؤية غالباً فيعتبر المتعاقد عالمًا به. ومثله ما لو كان يحتاج إلى مزيد تأمّل فدلّ البائع المشتري على موضع العيب أو صفته، فإنّ ذلك يحول دون ثبوت الخيار للمتعاقد الآخر الّذي تعامى عن إبصار العيب الواضح. كما لا يقبل قوله لم أره، بخلاف ما إذا كان العيب لا يعاين، فهو على الأصل من قيام الخيار بشرائطه. ومن ذلك ما لو كان العيب خفيّاً، لكنّ المتعاقد صرّح به وذكره على سبيل اشتراط أنّه موجود ظاهر. كما لو كان المبيع ثوراً باعه على شرط أنّه يرقد في المحراث أو يعصي في الطّاحون، أو باع فرساً على شرط أنّها جموح، ثمّ تبيّن كذلك، فالبائع بريء. وليس من ذلك ما لو كان يحتاج إلى خبرة خاصّة، ومثّلوا لذلك بما إذا أقبض المشتري الثّمن، وقال للبائع استنقذه فإنّ فيه زيفاً، فقال: رضيت بزيفه فطلع فيه زيف، ذكر ابن حجر الهيتميّ: أنّ بعضهم أفتى بأنّه لا ردّ له به، ولم يرتضه قائلاً: ووجه ردّه أنّ الزّيف لا يعرف قدره في الدّرهم بمجرّد مشاهدته فلم يؤثّر الرّضا به. ويفهم من هذا أنّ الإعلام بالعيب - الّذي ينتفي به الخيار - هو الإعلام المفيد، وهنا لم يستفد إلاّ وجود زيف في الثّمن، أمّا كم هو؟ فلم يحدّد. 19 - وقد تعرّض الفقهاء إلى صورة ربّما كانت نادرةً في السّابق، إلاّ أنّها أصبحت الآن محتملة الوقوع كثيراً لتنوّع خصائص الأشياء وخفاء عللها، بحيث يرى المرء الأمر الّذي يلابسه العيب ولكنّه يظنّ أنّه ليس بعيب، أو يعلمه عيباً ولكن يحسبه لا ينقص القيمة وهو بخلاف ذلك. فإذا علم المشتري بالأمر المعتبر عيباً دون أن يدري أنّه عيب وقبضه، ثمّ علم بعد القبض أنّه عيب، فالحكم هنا أن ينظر: إن كان عيباً بيّناً لا يخفى على النّاس لم يكن له الرّدّ، وإن كان يخفى ولا يعرفه إلاّ ذوو الخبرة أو المختصّون بتلك الأشياء فله الرّدّ.
20 - يشترط لقيام الخيار أن لا يكون البائع قد اشترط البراءة من العيب أو العيوب الّتي في المبيع. ولهذه الشّريطة تفاصيل وافية، بل اقترانها بالبيع يجعل منه نوعاً خاصّاً من أنواع البيوع يدعى بيع البراءة.
21 - حكمها ومجالها: اشتراط البراءة من العيب جائز عند الحنفيّة سواء أكان العيب معلوماً للمشترط أم مجهولاً له، ومهما كان محلّ العقد، وأجازه مالك والشّافعيّ في الحيوان وحده. لأنّ الحيوان قلّما ينفكّ عن عيب خفيّ أو ظاهر فيحتاج فيه إلى شرط البراءة ليثق بلزوم البيع فيما لا يعلمه من الخفيّ دون ما يعلمه. والأصل في اعتبار البراءة من العيب أثر عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما حين باع غلاماً له بثمانمائة درهم، وباعه بالبراءة، فقال الّذي ابتاعه لعبد اللّه بن عمر: بالغلام داء لم تسمّه لي. فاختصما إلى عثمان بن عفّان، فقال الرّجل: باعني عبداً وبه داء لم يسمّه. وقال عبد اللّه: بعته بالبراءة. فقضى عثمان بن عفّان على عبد اللّه بن عمر أن يحلف له: لقد باعه العبد وما به داء يعلمه. فأبى عبد اللّه أن يحلف، وارتجع العبد، فصحّ عنده، فباعه عبد اللّه بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم. 22 - الاتجاه الأول: أن يبرأ من كل عيب، علمه البائع أو لم يعلمه. وهو مذهب أبي حنيفة وأبي ثور، وروي عن ابن عمر وزيد. الثاني: لايبرأ من شيء من العيوب حتّى يسميه، سواء أكان العيب مما يعاين أم لا، وهو مذهب ابن أبي ليلى وسفيان الثوري. الثالث: لايبرأ من شيء من العيوب حتّى يضع يده عليه، والمراد بوضع اليد، إمّا المعاينة، وهو قول للشّافعية فيما يمكن رؤيته، وإمّا حقيقة وضع اليد، وهو ظاهر النقل عن شريح وعطاء ورواية في مذهب أحمد ومذهب إسحاق. الرابع: لا يبرأ إلا من العيب الباطن الذي لم يعلم به في الحيوان خاصة، وهو مذهب مالك الذي ذكره في الموطأ والقول الظاهر من مذهب الشّافعي. الخامس: أنّ البراءة إنّما هي في بيع السلطان للمغنم، أو على مفلس، أو في ديون الميّت، كما قال بعضم. السادس: بطلان البيع أصلاً وهو قول في مذهب الشّافعية. 23 - تنقسم البراءة أوّلاً إلى نوعين: خاصّة، من عيب معيّن مسمّىً، وعامّة من جميع العيوب - أو من كلّ عيب - ولا أثر لهذا التّقسيم في الحكم غير أثر الشّمول لكلّ عيب أو الاختصاص بالعيب المسمّى. على أنّ بعض الفقهاء منع العامّة لأنّها تشمل العيب الّذي يحدث قبل التّسليم ولم يكن موجوداً وقت العقد، في حين أجازها الآخرون وحملوها على ما يرونه جائزاً: دخول الحادث أو عدمه. 24 - لكنّ للبراءة تقسيماً آخر ذا أثر كبير، وهو أنّها: إمّا أن تكون مقيّدةً بالعيب الموجود عند العقد، وإمّا أن تصدر مضافةً إلى العيب الحادث بعد العقد وقبل القبض مع الموجود عند العقد، وإمّا أن ترد مطلقةً لا مقيّدةً ولا مضافةً. أ - فإذا كان اشتراط البراءة في صورة القيد بالعيب - أو العيوب - الموجودة عند العقد، وذلك يستفاد من عبارة: " على أنّي بريء من كلّ عيب به "، أو " من عيب كذا به "، فلا خلاف في أنّ البراءة على هذه الصّورة ونحوها لا تتناول إلاّ ما كان قائمًا وقت العقد، دون ما يحدث بعده إلى حين التّسلّم. ولا فرق بين صدور البراءة على وجه العموم أو الخصوص، وذلك لأنّ اللّفظ المقيّد بوصف لا يتناول غير الموصوف بتلك الصّفّة. ب - إذا كان اشتراط البراءة فيه إضافة للمستقبل، بأن كانت صريحةً بالتّنصيص على العيب الحادث بعد العقد قبل القبض فلا يصحّ هذا الاشتراط، والعقد معه فاسد، أمّا عدم صحّة الشّرط فلأنّ الإبراء لا يحتمل الإضافة إلى زمن مستقبل " ولا التّعليق بالشّرط " فهو - وإن كان إسقاطاً - فيه معنى التّمليك، ولهذا لا يحتمل الارتداد بالرّدّ. وأمّا فساد العقد، فلأنّه بيع أدخل فيه شرط فاسد فيفسد. وكذلك مذهب الشّافعيّة وهو شامل لما لو نصّ على العيب الكائن والحادث، أو أفرد الحادث بالذّكر، والأخير أولى بالفساد. ج - إذا كان اشتراط البراءة بصورة الإطلاق من غير بيان المراد أهو البراءة من العيب الموجود أم منه ومن الحادث " ويستوي في هذه الصّورة أيضاً أن تجيء عامّةً: على أنّي بريء من العيوب، أو من كلّ عيب، أو خاصّةً: من عيب كذا - وسمّاه – " فلأئمّة الحنفيّة رأيان في المراد بها: أحدها: شمول البراءة لما هو قائم عند العقد، وما يحدث بعده إلى القبض، وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف، وهو مذهب الشّافعيّ أيضاً. والرّأي الثّاني: اقتصار البراءة على العيوب الموجودة عند العقد، وهو ما ذهب إليه مالك ومحمّد بن الحسن وزفر والحسن بن زياد، وهو قول لأبي يوسف أيضاً.
25 - ذكر فقهاء الحنفيّة أنّ خيار العيب يثبت في العقود التّالية: البيع أو الشّراء، والإجارة، والقسمة، والصّلح عن المال، وبدل الصّلح عن دم العمد، وفي المهر، وبدل الخلع. أ - أمّا ذكر البيع والشّراء معًا فلمراعاة ظهور العيب في المبيع أو الثّمن، فيذكر ثبوته في الشّراء إذا لوحظ كون العيب في المبيع، وإذا لوحظ كون العيب في الثّمن ذكر ثبوته في البيع، لكنّهم يصوّرونه غالبًا في الشّراء، وأنّ العيب في المبيع لأنّ الغالب في الثّمن الانضباط فيقلّ ظهور العيب فيه. والمراد من البيع " أو الشّراء " الصّحيح لا الفاسد، لوجوب فسخه بدون الخيار. ويشمل البيع عقد الصّرف، لأنّ السّلامة عن العيب مطلوبة عادةً فيه، سواء - أكان بدل الصّرف من الأثمان كالتّبر والنّقرة، أم الدّيون كالدّراهم والدّنانير المضروبة، إلاّ أنّ بدل الصّرف إذا كان عيناً فردّه بالعيب يفسخ العقد سواء ردّه في المجلس أم بعد الافتراق، ويرجع على البائع بما نقد، وإن كان دينًا بأن وجد الدّراهم المقبوضة زيوفاً فردّها في المجلس ينفسخ العقد بالرّدّ، حتّى لو استبدل مكانه مضى الصّرف، وإن ردّها بعد الافتراق بطل الصّرف عند أبي حنيفة وزفر خلافاً لأبي يوسف ومحمّد. ب - الإجارة: ولو حدث العيب بعد العقد والقبض، بخلاف البيع، أي يثبت فيها الخيار سواء أكان العيب قديماً أم حادثاً. كما أنّه ينفرد صاحب الخيار بالرّدّ فيها قبل القبض وبعده. وفي البيع ينفرد قبله فقط. ج - القسمة: فإذا وجد بعض الشّركاء في نصيبه بعد القسمة عيباً قديماً. كان له الخيار. د - الصّلح عن المال. هـ - المهر. ز - بدل الخلع. ح - بدل الصّلح عن دم العمد. وهي تفارق ما سبق من مجال خيار العيب، بأنّ الرّدّ فيها إنّما هو بفاحش العيب لا بيسيره. 26 - وقد ذكر ابن رشد أنّ العقد بالنّسبة لكونه مجالاً لخيار العيب ينقسم إلى ثلاثة أنواع: أ - ما هو مجال له بلا خلاف، وهو العقود المقصود بها المعاوضة. ب - ما ليس مجالاً له بلا خلاف، وهو العقود الّتي ليس المقصود بها المعاوضة. وذلك مثل الهبة لغير العوض، والصّدقة. ج - ما فيه خلاف، والأظهر أنّه ليس مجالاً له، وهو العقود الّتي جمعت قصد المكارمة والمعاوضة مثل الهبة بقصد العوض. وهذا الضّابط لمجال خيار العيب تشهد له تفريعات المذاهب ولم نجد تعداداً للعقود الّتي يثبت فيها عند غير الحنفيّة.
27 - فيه ثلاثة آراء: الرّأي الأوّل: أنّه على الفور: فتجب المبادرة للفسخ وإلاّ سقط. ومرادهم من الفوريّة: الزّمن الّذي يمكن فيه الفسخ بحسب العادة. فلو علمه عند العقد أو بعده ولم يفسخ فهو من ضمانه ولا يرجع بأرش العيب. وهذا مذهب الشّافعيّة ورواية في مذهب أحمد على ما ذكره القاضي أبو يعلى من تعدّد الرّواية فيه. وهو رأي لدى الحنفيّة ذكره صاحب الحاوي ومفاده: أنّه إذا أمسك المعيب بعد الاطّلاع على العيب مع قدرته على الرّدّ كان رضاً. وقال ابن نجيم عن هذا الرّأي: إنّه غريب، والمعتمد أنّه على التّراخي. والمراد من المبادرة الّتي يسقط الخيار بتركها، أن يبادر على العادة. ولو قال: لم أعلم أنّ الرّدّ على الفور يقبل قوله إن كان ممّن يخفى عليه. وحيث بطل حقّ الرّدّ بالتّقصير يبطل حقّ الأرش أيضاً ولا بدّ من يمينه. قال القاضي زكريّا: هذا في بيع الأعيان، بخلاف ما في الذّمّة فهو على التّراخي لأنّه لا يملكه ملكاً مستقرّاً إلاّ بالرّضا - ولو قبضه - لأنّه غير معقود عليه. وكذلك لا يجب الفور في طلب الأرش. واستدلّ الشّافعيّة بدليلين: أحدهما أنّ الأصل في البيع اللّزوم ثمّ ثبت خيار العيب بالإجماع وغيره، والقدر المحقّق من الإجماع ثبوته على الفور، والزّائد على ذلك لم يدلّ عليه إجماع ولا نصّ، فيكون على مقتضى اللّزوم تقليلاً لمخالفة الدّليل ما أمكن، ولأنّ الضّرر المشروع لأجل الخيار يندفع بالمبادرة، فالتّأخير تقصير، فيجري عليه حكم اللّزوم. والدّليل الثّاني: القياس على حقّ الشّفعة لورود النّصّ فيها وكلاهما خيار ثبت بالشّرع لا للتّروّي، بل لدفع الضّرر. الرّأي الثّاني: أنّه على التّراخي: 28 - فلا يسقط بالتّأخير ما لم يوجد منه - على المعتمد - ما يدلّ على الرّضا. وهو مذهب الحنفيّة - على المعتمد - والحنابلة على الرّواية المصحّحة من المذهب، وصنيع أبي الخطّاب منهم أنّه هو المذهب دون أن يشير إلى تعدّد الرّواية فيه. واستدلّ القائلون بأنّه على التّراخي بأنّه خيار لدفع ضرر متحقّق، فكان على التّراخي، كالقصاص. ولم يسلّموا بدلالة الإمساك على الرّضا به. الرّأي الثّالث: توقيته بيوم أو يومين: 29 - ويفترق الحكم بالرّدّ فإن حصل في يوم فأقلّ لم يحتج لردّه إلى اليمين، بعدم حصول رضاه، وإن تأخّر إلى يومين ردّه مع اليمين بأنّه ما رضي بالمعقود عليه. وهو مذهب المالكيّة. ومستندهم كالمستند السّابق، إلاّ أنّهم جعلوا من انقضاء اليوم أو اليومين بلا ردّ دليلاً على الرّضا.
30 - إنّ وجود خيار العيب في العقد لا أثر له على حكم العقد الّذي هو انتقال الملك، فملك المبيع يثبت للمشتري حالاً، وملك الثّمن ينتقل إلى البائع في الحال، لأنّ ركن البيع مطلق عن الشّرط. والثّابت بدلالة النّصّ شرط السّلامة لا شرط السّبب " كما في خيار الشّرط " ولا شرط الحكم " كما في خيار الرّؤية " وأثر شرط السّلامة يقتصر على منع لزوم العقد ولا سلطان له على منع أصل حكم العقد.
31 - الملك مع خيار العيب غير لازم، لأنّ السّلامة شرط في العقد دلالةً، فما لم يسلّم المبيع، لا يلزم البيع فلا يلزم حكمه. وقد استدلّ الكاسانيّ لكون السّلامة مشروطةً في العقد دلالةً بأنّها في البيع مطلوبة المشتري عادةً إلى آخر الوقت، لأنّ غرضه الانتفاع بالمبيع، ولا يتكامل انتفاعه إلاّ بقيد السّلامة، ولأنّه لم يدفع جميع الثّمن إلاّ ليسلّم له جميع المبيع، فكانت السّلامة مشروطةً في العقد دلالةً " فكانت كالمشروطة نصّاً " فإذا فاتت المساواة كان له الخيار. 32 - وللفقهاء اتّجاهات ثلاثة في تحديد ما يثبت للمشتري عند قيام خيار العيب: أ - التّخيير بين أمرين هما الرّدّ، أو الإمساك بجميع الثّمن. وبعبارة أوضح هي: التّخيير بين أمرين اثنين: أن يفسخ العقد ويردّ المبيع المعيب ويستردّ الثّمن، أو أن يمضي العقد ويمسك المعيب بجميع الثّمن دون أن يرجع على البائع بالأرش " نقصان المعيب " فعلى هذا الاتّجاه ليس للمشتري أن يمسك المعيب ويأخذ الأرش وهو نقصان المعيب، إلاّ في حال تعذّر الرّدّ بأحد الموانع الّتي ستأتي، فحينئذ له الإمساك مع الأرش لكنّه على سبيل الخلف عن الرّدّ ولا يثبت أصالةً. وهذا الاتّجاه هو مذهب الحنفيّة والشّافعيّة. قال الشّيرازيّ لأنّه لم يرض إلاّ بمبيع سليم بجميع الثّمن فلم يجبر على إمساك معيب ببعض الثّمن. وقال الكاسانيّ: لو قال المشتري: أنا أمسك المعيب وآخذ النّقصان ليس له ذلك، لأنّ قوله: أمسك المعيب دلالة الرّضا بالعيب وأنّه يمنع الرّجوع بالنّقصان. وقال بعدئذ: لأنّ حقّ الرّجوع بالنّقصان كالخلف عن الرّدّ، والقدرة على الأصل تمنع المصير إلى الخلف. ب - التّخيير بين أمرين اثنين أيضًا، لكنّهما هنا: الرّدّ - كما سبق - أو الإمساك مع الأرش ولو لم يتعذّر الرّدّ وسواء رضي البائع بدفع الأرش أو سخط به. ففي هذا الاتّجاه الفقهيّ لا مكان للإمساك بدون أرش بل هو من لوازمه. وهو مذهب أحمد بن حنبل - وإسحاق بن راهويه -. واستثنى الحنابلة ما إذا كان الإمساك مع الأرش يؤدّي إلى الرّبا، فحينئذ يكون التّخيير بين الرّدّ أو الإمساك مجّاناً، ومثاله: شراء حليّ فضّة بزنته دراهم فضّةً، وشراء قفيز ممّا يجري فيه الرّبا، إذا اشتراه بمثله، ثمّ وجده معيباً، وذلك لأنّ أخذ الأرش يؤدّي إلى ربا الفضل، أو إلى مسألة (مُدّ عَجْوةٍ). وسبب الخلاف النّظر إلى نقص العيب، هل هو نقص أصل أو نقص وصف؟ فعند الحنفيّة والشّافعيّة " والمالكيّة في العيب الكثير " هو نقص وصف ولذا يخيّر بين الرّدّ والإمساك بدون شيء، وعند الحنابلة هو نقص أصل، ولذا يخيّر بين الرّدّ والإمساك مع الرّجوع بالنّقصان. ج - التّفرقة بين العيب الكثير، والعيب اليسير - ويسمّونه غالباً: القليل المتوسّط -" بعد إخراج العيب القليل جدّاً الّذي لا ينفكّ عنه المبيع لأنّه لا حكم له كما قال ابن رشد الجدّ ". ففي العيب الكثير - وقد سبق بيان حدّه، وأنّ الرّاجح في تقديره عند ابن رشد: عشرة في المائة، وعند غيره: الثّلث - لا يختلف مذهب المالكيّة عن مذهب الحنفيّة والشّافعيّة " أصحاب الاتّجاه الأوّل " يخيّر المشتري بين الرّدّ والإمساك مجّاناً، بلا أرش، وهذا الحكم في العيب الكثير سمّاه ابن جزيّ: " عيب ردّ ". أمّا في العيب المتوسّط فالمشهور التّفريق بين الأصول " العقارات من دور ونحوها " وبين العروض " وهي ما عدا العقار ": ففي العقارات لا يكون للمشتري الرّدّ بهذا العيب المتوسّط بل له الرّجوع بالأرش. أمّا في العروض، فظاهر الرّوايات في المدوّنة أنّه يجب فيها الرّدّ سواء كان العيب متوسّطاً أو كثيراً. وقيل: إنّ العروض كالأصول لا يجب الرّدّ في العيب المتوسّط وإنّما فيه الرّجوع بالقيمة. وذكر ابن رشد الجدّ أنّ شيخه الفقيه أبا بكر بن رزق كان يحمل ظاهر الرّوايات على التّسوية بين العروض والأصول في أنّ حكمها الرّجوع بالقيمة إذا كان العيب متوسّطاً، وأشار ابن رشد إلى أنّ لتأويله هذا ما يؤيّده من رواية زياد عن مالك في الثّياب. ولعلّه استناداً لهذه الرّواية كان بعض شيوخ ابن يونس يرون أنّ الثّياب في ذلك كالدّور.
33 - يشترط لصحّة الفسخ أو الرّدّ ما يلي: أ - قيام الخيار، وهذه الشّريطة يقتضيها أنّ الفسخ في الخيار إنّما هو لأنّ العقد غير لازم، فإذا سقط الخيار لزم العقد، والعقد اللّازم لا يحتمل الفسخ. ب - أن يكون المردود على الوصف الّذي كان مقبوضًا: والمراد أن لا يلحق بالمبيع عيب زائد عن العيب القديم، فكما قبض المشتري المبيع عليه أن يردّ غير معيب بعيب زائد كعيب الشّركة النّاشئ عن تفرّق الصّفقة، أو العيب الحادث. ج - أن لا يتضمّن الفسخ تفريق الصّفقة قبل التّمام: وهو ما قبل قبض المبيع كلّه، لما يترتّب على التّفريق من عيوب، أحدها عيب الشّركة كما سيأتي. قال الكاسانيّ: وهذا المنع فيما إذا لم يرض البائع، إذ لو رضي لجاز، لأنّه حينئذ ضرر مرضيّ من جهته لا يجب دفعه عنه وفي هذا يقول ابن حجر: " إذا اتّحد المبيع صفقةً لا يردّ المشتري بعضه بعيب قهراً، إلاّ إذا كان البعض الآخر للبائع فحينئذ يردّ عليه البعض قهراً، وهو المعتمد من القاضي ومن تبعه، لأنّ العلّة الصّحيحة في امتناع ردّ البعض إنّما هي الضّرر النّاشئ من تبعيض الصّفقة عليه.. والتّعليل باتّحاد الصّفقة وتفريقها بمجرّده لا يصلح للتّعليل، وإنّما وجه العلّة ما فيه من الضّرر غالباً فآلت العلّتان إلى شيء واحد وهو انتفاء الضّرر ". 34 - وتفريق الصّفقة قبل قبض المبيع كلّه لا يجوز مهما كان المبيع، سواء كان شيئاً واحداً كالثّوب، والدّار، أو المكيل والموزون في وعاء أو أوعية، أو كان شيئين حقيقةً وتقديراً كالثّوبين والدّارين، أم شيئين حقيقةً شيئاً واحداً تقديراً كمصراعي باب. ودليل عدم جواز تفريق الصّفقة على البائع قبل تمامها ما يلحق بالبائع من ضرر يجب دفعه ما أمكن، والضّرر هو إلزام البائع بالشّركة، والشّركة في الأعيان عيب. هذا في تفريق الشّيء الواحد، أمّا إذا كان المبيع أشياء ففيه ضرر آخر وهو لزوم البيع في الجيّد بثمن الرّديء لأنّ ضمّ الرّديء إلى الجيّد والجمع بينهما في الصّفقة من عادة التّجّار ترويجاً للرّديء بوساطة الجيّد. وأمّا اعتبار قبض البعض بمثابة عدم القبض فلأنّ الصّفقة لا تتمّ إلاّ بقبض جميع المعقود عليه - وسواء وجد العيب في المقبوض أو في غيره - وروي عن أبي يوسف أنّه إذا كان العيب في المقبوض فله ردّه خاصّةً بحصّته. وفي تفرّق الصّفقة يفصل المالكيّة بين بقاء السّالم " غير المعيب " وفواته، فإن كان فائتاً فله ردّ المعيب مطلقاً وأخذ حصّته من الثّمن، لأنّه لو ردّ الجميع هنا ردّ قيمة الهالك عيناً ورجع في عين وهو الثّمن للعين وقيمة العرض الّذي قد فات عند البائع، وردّ العين والرّجوع فيها لا فائدة فيه. وأمّا إن كان باقياً فله ردّ البعض بحصّته بشريطتين: أ - أن لا يكون المعيب هو الأكثر من النّصف ولو بيسير، فليس له ردّه بحصّته، بل إمّا أن يتماسك بالجميع أو يردّ الجميع، أو يتماسك بالبعض بجميع الثّمن. ب - أن لا يكون المعيب وجه الصّفقة فليس للمبتاع إلاّ ردّ الجميع أو الرّضا بالجميع. ويستثنى من ذلك ما كان أحد مزدوجين. ولم يصوّر المالكيّة التّفرّق في الشّيء الواحد لاعتبارهم ذلك من العيب الحادث " المتوسّط " وحكمه التّخيير بين الإمساك وأخذ أرش القديم، أو الرّدّ ودفع أرش الحادث ما لم يقبله البائع بالحادث. 35 - ومذهب الحنابلة أنّ تفرّق الصّفقة مانع من الرّدّ قطعاً إذا كان في الشّيء الواحد، وفي الشّيئين ممّا ينقصهما التّفريق، أو ممّا لا يجوز التّفريق بينهما، دفعاً لضرر البائع. أمّا إذا كانا شيئين ممّا لا ينقص بالتّفريق وما كان في وعاءين فهو كشيئين عندهم ووجدهما مبيعين فليس له ردّ أحدهما على الصّحيح. قال المرداويّ: وهو الصّواب. فإن وجد بأحدها عيباً فليس له إلاّ ردّ المعيب فقط على الرّواية المختارة من ثلاث روايات. وكذلك قال الشّافعيّة لا يردّ المشتري بعض المبيع المعيب، وإن زال الباقي عن ملكه وانتقل للبائع، على ما جزم به المتولّي والسّبكيّ والبغويّ، لأنّه وقت الرّدّ لم يردّ كما تملّك. وقال القاضي حسين: إنّ له الرّدّ إذ ليس فيه تبعيض على البائع، ومثله ما لو كانا شيئين تتّصل منفعة أحدهما بالآخر. أمّا الشّيئان ممّا ليس كذلك - سواء كانا معيبين أو ظهر العيب بأحدهما - فليس له ردّ أحدهما بل يردّهما. ويفرّق الشّافعيّة بين تعدّد الصّفقة وتفرّدها. فإن تعدّدت الصّفقة " وذلك بتعدّد البائع أو تعدّد المشتري، أو تفصيل الثّمن " فله ردّ أحدهما في الأظهر، لأنّه لم يحصل تفريق الصّفقة. أمّا إن تفرّدت " بعدم توافر شيء من أسباب تعدّدها " فليس له ردّ البعض.
36 - تفرّق الصّفقة لا تنحصر صوره في محلّ العقد، بل قد ينشأ عن تعدّد العاقد. كما لو كان المشتري رجلين اشتريا شيئاً واحداً واطّلعا على عيب بالمبيع، فإنّه ينفرد أحدهما بالفسخ دون صاحبه في قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمّد ينفرد. وحجّة الصّاحبين أنّه ردّ المشتري كما اشتراه، فالرّدّ صالح في النّصف لأنّه مشتر نصفه، وحجّة أبي حنيفة أنّ الرّدّ لم يوجد على الوصف الّذي كان مقبوضاً لأنّه قبضه غير معيب بعيب زائد - وهو هنا عيب الشّركة - فلا يصحّ دفعاً للضّرر عن البائع. وقد بيّن ابن قدامة مذهب الحنابلة وموافقته للشّافعيّة في ذلك فقال: لو اشترى رجل من رجلين شيئاً فوجده معيباً فله ردّه عليهما فإن كان أحدهما غائباً ردّ على الحاضر حصّته بقسطها من الثّمن ويبقى نصيب الغائب في يده حتّى يقدم، ولو كان أحدهما باع العين كلّها بوكالة الآخر فالحكم كذلك سواء أكان الحاضر الوكيل أم الموكّل نصّ أحمد على قريب من هذا، فإن أراد نصيب أحدهما وإمساك نصيب الآخر جاز لأنّه يردّ على البائع جميع ما باعه ولا يحصل بردّه تشقيص، لأنّ المبيع كان مشقّصاً في البيع.
37 - فلو فسخ بغير علمه لم يعتبر، وكان له الرّجوع عن فسخه وكان ذلك الفسخ موقوفاً. إن علم به في مدّة الخيار نفذ، وإن لم يعلم حتّى مضت المدّة كان ذلك إجازةً للعقد. ويعبّر بعض الفقهاء عن شريطة العلم هذه بقولهم: أن يجيز - أو يفسخ - في حضرة صاحبه، وهم مجمعون أنّ المراد من الحضرة العلم وليس الحضور. واشتراط العلم للفسخ في خيار العيب متّفق عليه بين أئمّة الحنفيّة. سواء أكان الرّدّ قبل القبض أم بعده. وليس العلم بمشترط عند الشّافعيّة والحنابلة. فقد صرّحوا بأنّ الرّدّ بالعيب لا يفتقر إلى رضا البائع وحضوره " ولا حكم حاكم قبل القبض ولا بعده ". ولم نجد للمالكيّة كلاماً في هذا والحنفيّة لا يشترطون للرّدّ قبل القبض القضاء أو التّراضي، أمّا إذا كان بعد القبض فلا بدّ من أحدهما لأنّه قبل القبض ممّا تقرّر أنّه لا اعتبار عند رفع العقد لحضور من لا يعتبر رضاه فيه. وأمّا بعد القبض فهو رفع لعقد مستحقّ له بالعيب، فلا يعتبر فيه رضا البائع نظير ما قبل القبض.
38 - الرّدّ إمّا أن يتمّ بمحض إرادة صاحب الخيار، وإمّا أن يشترط لحصوله - عند الحنفيّة - وجود التّراضي بين العاقدين أو التّرافع للقضاء. وذلك يتبع حال الصّفقة من حيث التّمام وعدمه. وتمامها كما هو معلوم بالقبض، فإذا لم تتمّ الصّفقة لا يشترط التّراضي أو التّقاضي. قال الكاسانيّ: لأنّ الصّفقة قبل القبض ليست تامّةً بل تمامها بالقبض فكان بمنزلة القبول كأنّه لم يشتره. أمّا إذا كانت الصّفقة قد تمّت، فالرّدّ لا يكون مجرّد نقض وانفساخ تكفي فيه إرادة صاحب الخيار، بل هو فسخ لصفقة تمّت فلا بدّ فيه من التّراضي أو التّقاضي، ويعلّل الكاسانيّ ذلك بأنّ الصّفقة قد تمّت بالقبض فلا تحتمل الانفساخ بنفس الرّدّ من غير قرينة القضاء أو الرّضا. وبعبارة السّرخسيّ: " الفسخ بعد تمام الصّفقة نظير الإقالة، وهي لا تتمّ إلاّ باتّفاق العاقدين " ولا فرق في الرّدّ بين وقوعه قبل القبض أو بعده، عند الشّافعيّة والحنابلة، لأنّه نوع فسخ فلا تفتقر صحّته إلى القضاء ولا للرّضا، كالفسخ بخيار الشّرط " بالإجماع " وكالرّدّ بالعيب قبل القبض فكذا بعده. ولأنّ الرّدّ بالعيب عندهم يرفع العقد من أصله، فلم يتفاوت الرّدّ.
39 - ذهب الحنفيّة - كما ذكرنا - إلى أنّ الفسخ قبل القبض يحصل بالإرادة المنفردة والمراد قول المشتري رددت أو فسخت ونحو ذلك من العبارات. أمّا بعد القبض فلا بدّ من الاتّفاق بأن يفسخ صاحب الخيار ويقبل العاقد الآخر أو يتقاضيان. قال الكاسانيّ: " لأنّ الفسخ يكون على حسب العقد لأنّه يرفع العقد، ثمّ العقد لا ينعقد بأحد العاقدين فلا ينفسخ بأحدهما دون رضا الآخر. أمّا قبل القبض فالصّفقة لم تتمّ، فكان من السّهل الرّدّ لأنّه كالامتناع من القبض، وهو تصرّف دفع وامتناع وذلك خالص حقّه ". أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فالفسخ يجوز للمشتري مهما كانت الكيفيّة: في حضور البائع أو غيبته، برضاه أو عدمه، ولا يفتقر إلى الحاكم ولكن نظرًا لذهاب الشّافعيّة إلى أنّ خيار العيب يثبت على الفور، لا التّراخي، وأنّه تجب المبادرة إلى الفسخ وإلاّ سقط، فقد احتيج إلى القيام ببعض الإجراءات دون أن تختصّ صورة منها بالوجوب، بل يجزئ عنها ما يؤدّي المراد وهو إثبات مبادرته للفسخ. وخلاصة هذه الإجراءات عند الشّافعيّة أنّه إذا كان كلّ من الخصم والحاكم بالبلد وجب الذّهاب إلى أحدهما، فإن أخّر سقط حقّه وإن فسخ، ولكن هناك صورة بديلة عن الذّهاب إلى البائع أو الحاكم، وهي أن يشهد على الفسخ فلا يسقط حقّه، ولا يلزمه الذّهاب بعد ذلك إلاّ للتّسليم وفصل الخصومة، على ما حقّقه السّبكيّ خلافاً لما توهمه بعض عبارات المتون.
40 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا كان الرّدّ بالتّراضي بين المتعاقدين فهو فسخ في حقّهما بيع في حقّ غيرهما، وذلك في الرّدّ بعد القبض " أمّا قبل القبض فهو ردّ بإرادة منفردة " وإذا كان الرّدّ بالقضاء كان فسخاً في حقّهما وفي حقّ غيرهما. أمّا عند غير الحنفيّة فالفسخ رفع للعقد من أصله مطلقاً. ويظهر أثر هذه الطّبيعة في حال تعاقب بيعين على المعيب بعيب قديم، حيث يفرّق بين أن يكون قبول الرّدّ من البائع الثّاني حصل بالتّراضي أو بالقضاء، فإن تمّ بالقضاء بإقامة البيّنة على أنّ العيب كان عنده بعدما أنكر العيب. أو بنكوله عن اليمين على العيب، أو بإقراره بالعيب أنّه كان عنده، والمقصود صدور إقرار منه ثمّ إنكاره، فيقيم المشتري البيّنة على ذلك الإقرار " أمّا الإقرار المبتدأ فلا حاجة معه إلى القضاء أصلاً " ففي هذه الحال للبائع الثّاني أن يردّه على بائعه الأوّل فيخاصمه ويفعل الإجراءات الواجبة لردّه عليه. وإن كان قبول المشتري الأوّل للرّدّ بغير القضاء بل برضاه فليس له الرّدّ على بائعه، لأنّ الرّدّ بالتّراضي بيع جديد في حقّ غير المتعاقدين - أو كما يعبّرون: في حقّ الثّالث - والبائع الأوّل هنا غير المشتري الأوّل والمشتري الثّاني، كأنّ المشتري الأوّل اشتراه من المشتري الثّاني، وفي هذه الحال ليس له أن يردّه على البائع الأوّل. ولأنّه إذا قبله بغير قضاء فقد رضي بالعيب فلا يردّه على بائعه الأوّل، ولا يقال إنّهما بالتّراضي على الرّدّ فعلا عين ما يفعله القاضي، لأنّ الحكم الأصليّ في هذا هو المطالبة بالسّلامة من العيب، وإنّما يصار إلى الرّدّ للعجز، فإذا نقلاه إلى الرّدّ لم يصحّ في حقّ غيرهما، ألا يرى أنّ الرّدّ إذا امتنع وجب الرّجوع بحصّة العيب. 41 - هذا كلّه فيما إذا كان الرّدّ بالعيب من المشتري الثّاني بعد قبضه، أمّا إذا كان قبل قبضه فللمشتري الأوّل أن يردّه على البائع الأوّل سواء كان بقضاء أم بغير قضاء - كما لو باع المشتري الأوّل للمشتري الثّاني بشرط الخيار له - أو بيعاً فيه خيار رؤية فإنّه إذا فسخ المشتري الثّاني بحكم الخيار كان للمشتري الأوّل أن يردّه مطلقاً. قال في الإيضاح: " الفقه فيه أنّه قبل القبض له الامتناع من القبض عند الاطّلاع على العيب، فكان هذا تصرّف دفع وامتناع من القبض، وولاية الدّفع عامّة فظهر أثره في حقّ الكلّ ولهذا لا يتوقّف على القضاء ". وتعرّض ابن قدامة لهذه المسألة فذكر أنّ المشتري الأوّل إن عاد المعيب إليه من المشتري الثّاني فأراد ردّه بالعيب القديم ينظر: فإن كان حين باعه عالماً بالعيب، أو وجد منه ما يدلّ على رضاه فليس له ردّه، لأنّ تصرّفه رضاً بالعيب. وإلاّ كان له ردّه.. سواء رجع إلى المشتري الأوّل بالعيب القديم أو بإقالة، أو هبة، أو شراء ثان، أو ميراث.
42 - هناك أمور تطرأ على المبيع من زيادة أو نقصان أو تصرّف تمنع ردّ المبيع، وحينئذ ينتقل حقّ المشتري من الرّدّ إلى الرّجوع بنقصان الثّمن، على تفصيل بين المذاهب في هذا الموجب، ولمّا كان هذا الموجب بديلاً عن الخيار بين الرّدّ والإمساك " الّذي هو الأصل " أمكن تسميته " الموجب الخلفيّ " وكما هو مقرّر لا يجتمع الخلف والأصل بل يتعاقبان، فإذا تعذّر الأصل يصار إلى ما هو خلف له. هذا مذهب الحنفيّة والشّافعيّة. وقد عرّف غيرهم هذا الموجب مع اختلاف المجال، فالمالكيّة حين جعلوا العيوب أنواعاً ثلاثةً: العيب اليسير " ليس فيه شيء "، وعيب الرّدّ " وهو الفاحش الّذي يكون فيه المشتري بالخيار بين الرّدّ والإمساك بلا أرش "، وعيب القيمة، أرادوا بهذا الأخير العيب المتوسّط الّذي ينقص من الثّمن، وموجب عيب القيمة أن يحطّ عن المشتري من الثّمن بقدر نقص العيب، فمثل هذا النّوع نقصان الثّمن هو موجبه الأصليّ. كما أنّ الحنابلة يثبتون الخيرة للمشتري بين الإمساك بنقصان الثّمن أو الرّدّ ولو لم يتعذّر الرّدّ. فهذا هو الموجب الأصليّ للخيار عندهم، أمّا الموجب الخلفيّ عند تعذّر الرّدّ بسبب عيب حادث فهو التّخيير بين الرّدّ وإعطاء أرش العيب الحادث وبين الإمساك وأخذ أرش العيب القديم. وهو الحكم عند المالكيّة أيضاً.
43 - هي أن يقوّم المبيع بلا عيب، ثمّ يقوّم مع العيب وينظر إلى التّفاوت وتؤخذ نسبته إلى القيمة هل هو عشر أو ثمن أو ربع.. إلخ. فإن كان التّفاوت عشر القيمة رجع المشتري بعشر الثّمن. وهكذا. قال صاحب الأشباه: ولم يذكر قاضي خان ولا الزّيلعيّ ولا ابن الهمام هل القيمة الّتي ينسب إليها النّقصان يوم العقد أو القبض؟ وينبغي اعتبارها يوم العقد. وفي المغني أنّ الحسن البصريّ قال: يرجع بقيمة العيب في الثّمن يوم اشتراه قال أحمد: هذا أحسن ما سمعت. وقال في شرح الرّوض " هو أقلّ قيمتي وقت العقد والقبض ".
44 - تنقسم موانع الرّدّ إلى مانع طبيعيّ أو شرعيّ أو عقديّ.
45 - ذكر الكاسانيّ أنّ هلاك المبيع في يد البائع يمنع الرّدّ، لفوات محلّ الرّدّ، ولا يرجع البائع على المشتري بشيء من الثّمن، لأنّه يحمل تبعة الهلاك قبل القبض. أمّا بعد القبض فقد أفاد صاحب الهداية أنّ موت محلّ الرّدّ بيد المشتري يمنع الرّدّ ويجعل موجب الخيار الرّجوع بنقصان الثّمن، والمراد أنّ هلاك المبيع بسبب سماويّ يمتنع معه الموجب الأصليّ الّذي هو الرّدّ ليحلّ محلّه الموجب الخلفيّ " نقصان الثّمن ". ويستوي في الهلاك أن يكون بسبب سماويّ أو باستهلاك المشتري له على سبيل الاستعمال والانتفاع المشروع، لا الإتلاف، وذلك بأكل الطّعام أو لبس الثّوب حتّى يتخرّق، وفي هذا النّوع خلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه، واعتباره في موانع الرّدّ دون الأرش هو مذهب الصّاحبين ومالك وأحمد، لأنّ المشتري صنع بالمبيع ما يقصد بشرائه ويعتاد فعله فيه من الأكل واللّبس حتّى انتهى الملك به. ولأبي حنيفة أنّه أتلفه بفعل مضمون منه لو وجد في غير ملكه، وقد انتفى الضّمان لملكه فكان كالمستفيد به عوضاً. وإن اقتصر الاستهلاك على بعضه، فعند الصّاحبين يرجع بنقصان الثّمن في الأكل وفي رواية ثانية يردّ ما بقي ويرجع بنقصان ما أكل. ومثل الهلاك في امتناع الرّدّ: انتهاء الملك عن الشّيء بالموت، لأنّه ينتهي به الملك لا بفعل المشتري، فيمتنع الرّدّ حكماً ويبقى له الرّجوع بالنّقصان. وقد سوّى الحنفيّة والشّافعيّة بين هلاك المعيب بالعيب أو بغيره، وفرّق المالكيّة بينهما، فوافقوهم في الرّجوع بنقصان الثّمن في الهلاك بغير العيب المدلّس، أمّا فيه فللمشتري الرّجوع بالثّمن كلّه. أمّا الحنابلة فالتّفرقة عندهم ليست بحسب الهلاك بالعيب أو غيره بل بحسب وقوع التّدليس وعدمه، فإن كان البائع سيّئ النّيّة ودلّس العيب ثمّ هلك المبيع به أو بغيره فللمشتري الرّجوع بالثّمن كلّه. أمّا إذا لم يدلّس البائع فرجوعه بنقصان الثّمن فقط. ويربط المالكيّة مقدار الجزاء بأثر العمل، فلا يرجع بالثّمن كلّه إلاّ إذا كان العيب المدلّس هو الّذي أودى بالمبيع. ويسمّي المالكيّة ذلك بالفوت ويقسّمونه إلى فوت حسّيّ، وفوت حكميّ.
46 - هذا المانع عبارة عن حصول زيادة في المبيع عند المشتري على أن تكون زيادةً منفصلةً متولّدةً بعد القبض أو متّصلةً غير متولّدة " مطلقًا، قبل القبض أو بعده " فظهور الزّيادة بعدما ظهر عيب في المبيع يمتنع به الرّدّ ولو قبل البائع، لأنّ المنع لحقّ الشّرع. وفيما يأتي تفصيل هاتين الصّورتين المانعتين من الرّدّ والنّاقلتين الموجب إلى الأرش. أوّلاً - الزّيادة المتّصلة غير المتولّدة " مطلقاً: قبل القبض أو بعده " كالصّبغ والخياطة في الثّوب، والبناء والغرس في الأرض، لأنّ هذه الزّيادة ليست تابعةً، بل هي أصل بنفسها فتعذّر معها ردّ المبيع، إذ لا يمكن ردّه بدون الزّيادة لتعذّر الفصل، ولا يمكن ردّه مع الزّيادة، لأنّها ليست تابعةً في العقد فلا تكون تابعةً في الفسخ " إلاّ إن تراضيا على الفسخ فهو إقالة وكبيع جديد " ولو قال البائع: أنا أقبله كذلك، ورضي المشتري لا يجوز أيضاً، لأنّ المنع لحقّ الشّرع لاستلزامه الرّبا. ثانياً - الزّيادة المنفصلة المتولّدة، بعد القبض خاصّةً، كالولد والثّمرة واللّبن وأرش الجناية. وتلك الزّيادة تمنع الرّدّ بالعيب أيضًا لأنّ الزّيادة مبيعة تبعًا لثبوت حكم الأصل وحصلت في ضمان المشتري، فإن ردّها مع الأصل كانت للبائع ربح ما لم يضمن، وإن استبقاها وردّ الأصل فإنّها تبقى في يده بلا ثمن، وهذا من صور الرّبا. وخالف الشّافعيّ في هذه الزّيادة، فعدّها كالكسب، لإمكان الفصل عن الأصل بدونها، والزّيادة للمشتري، فهي لا تمنع الرّدّ. 47 - أمّا صور الزّيادة الأخرى فلا تمنع الرّدّ، ولذا لا رجوع معها بالأرش، وهي: أ - الزّيادة المتّصلة المتولّدة، كالكبر والسّمن، ومنها عند الحنابلة الجنين قبل الوضع والثّمرة قبل التّأبير. وهي لا تمنع الرّدّ بالعيب في ظاهر الرّواية عند الحنفيّة إن رضي المشتري بردّها مع الأصل وإن أبى المشتري الرّدّ كان له الرّجوع بالأرش خلافاً لمحمّد. والحكم كذلك عند الحنابلة، لأنّ الزّيادة تمحّضت تابعةً للأصل بتولّدها منه مع عدم انفصالها فكأنّ الفسخ لم يرد على زيادة أصلاً - كما قال ابن الهمام - أو كما قال الكاسانيّ: كانت الزّيادة مبيعةً تبعاً، وما كان تبعاً في العقد يكون تبعاً في الفسخ. ولا فرق في هذه الزّيادة بين أن تحدث قبل القبض أو بعده. ب - الزّيادة المنفصلة المتولّدة: قبل القبض كالولد واللّبن والثّمر في بيع الشّجر وهي لا تمنع الرّدّ بالعيب، لكن لا يرد الأصل وحده، بل إن شاء المشتري ردّهما جميعًا وإن شاء رضي بهما بجميع الثّمن. وقال الحنابلة: يردّ الأصل دون الزّيادة، فهي للمشتري. ج - الزّيادة المنفصلة غير المتولّدة، كالغلّة والكسب، وهي لا تمنع من الرّدّ وهو الحكم لدى الشّافعيّة والحنابلة. ويفسخ العقد في الأصل دون الزّيادة ويسلّم الكسب للمشتري لأنّه حصل في ضمانه، ودليل ذلك الحديث الّذي فيه قول البائع: إنّه استغلّ غلامه فقال صلى الله عليه وسلم «الخراج بالضّمان» ولأنّ هذه الزّيادة ليست بمبيعة وإنّما هي مملوكة بملك الأصل، فبالرّدّ يفسخ العقد في الأصل وتبقى الزّيادة مملوكةً للمشتري بغير ثمن عند أبي حنيفة " لكنّها لا تطيب له، لأنّها وإن حدثت على ملكه هي ربح ما لم يضمن، وعند الصّاحبين: الزّيادة للبائع ولا تطيب له " هذا إذا اختار الرّدّ، أمّا إن رضي بالعيب واختار البيع فالزّيادة لا تطيب له بلا خلاف لأنّها ربح ما لم يضمن وهو منهيّ عنه، ولأنّها زيادة لا يقابلها عوض في العقد وهو رباً وقال الحنابلة: الكسب للمشتري بمقابلة ضمانه، دون فرق بين ما يقبل القبض أو بعده. 48 - هذا إن كانت الزّيادة قائمةً فإن هلكت بآفة سماويّة لم يتغيّر الحكم، وإن هلكت بفعل المشتري فالبائع بالخيار بين القبول وردّ جميع الثّمن وبين الرّفض وردّ النّقصان، وإن هلكت بفعل أجنبيّ امتنع الرّدّ. أمّا المالكيّة فقد قال الحطّاب عن ابن رشد في المقدّمات إنّ الزّيادة على خمسة أوجه: أولاً - زيادة لحوالة الأسواق. ثانياً - وزيادة في حالة البيع وكلاهما لا يعتبر ولا يوجب للمبتاع خياراً. صرّح بذلك في كتاب العيوب من المدوّنة فقال في أوّله ولا يفيت الرّدّ بالعيب حوالة الأسواق. ثالثاً - وزيادة في عين المبيع بنماء حادث فيه كالدّابّة تسمن أو بشيء من جنسه مضاف إليه كالولد فاختلف أصحابنا في ذلك. رابعاً - وزيادة مضافة للمبيع من غير جنسه مثل أن يشتري النّخل ولا ثمر فيه فتثمر عنده ثمّ يجد عيباً، فهذا لا اختلاف أنّ ذلك لا يوجب له خياراً ويكون مخيّراً بين أن يردّ النّخل وثمرتها ما لم يطب ويرجع بالعلاج على مذهب ابن القاسم أو يمسك ولا شيء له في الوجهين جميعاً وقوله ما لم يطب أي ما لم تزه. خامساً - وزيادة أحدثها المشتري في المبيع من صنعة مضافة إليه كالصّبغ والخياطة وما أشبههما ممّا لا ينفصل عنه إلاّ بفساد، فلا اختلاف أنّ ذلك يوجب له الخيار بين أن يتمسّك ويرجع بقيمة العيب أو يردّ ويكون شريكاً له، ونحوه للباجيّ. في المنتقى وذكر الباجيّ خمسة الأوجه. 49 - قال الحطّاب: وأمّا كيفيّة التّقويم فقد تكلّم على ذلك ابن غازيّ، وحاصله أنّه إذا حدثت زيادة عند المشتري ولم يحدث عنده عيب فإنّه يخيّر، فإن اختار الإمساك فيقوّم المبيع تقويمين، يقوّم سالماً، ثمّ معيباً، ويأخذ من الثّمن بنسبة ذلك، وإن اختار الرّدّ قوّم تقويمين أيضاً فيقوّم بالعيب القديم غير مصبوغ ثمّ يقوّم مصبوغاً، فما زادت قيمته مصبوغاً على قيمته غير مصبوغ نسب إلى قيمته مصبوغاً وكان المشتري شريكاً في الثّوب بنسبته، كما إذا قوّم غير مصبوغ بثمانين، وقوّم مصبوغاً بتسعين، فينسب العشرة الزّائدة إلى تسعين فتكون تسعاً فيكون المشتري شريكاً في الثّوب بالتّسع، وتعتبر قيمته مصبوغاً وغير مصبوغ يوم البيع عند ابن يونس، ويوم الحكم عند ابن رشد، وأمّا إذا حدث عند المشتري عيب وزيادة فإن اختار المشتري الإمساك قوّم المبيع تقويمين كما تقدّم، وإن اختار الرّدّ فقال ابن الحاجب: لا بدّ من أربع تقويمات، يقوّم سالماً ثمّ بالعيب القديم، ثمّ بالحادث، ثمّ بالزّيادة، وقال ابن عبد السّلام: لا حاجة إلى تقويمه سالماً ولا إلى تقويمه بالعيب الحادث وإنّما يقوّم بالعيب القديم ثمّ بالزّيادة فيشارك في المبيع بقدر الزّيادة.
50 - العقد المبرم بين العاقدين يقوم على الالتزام بما ألزم به كلّ منهما نفسه من مبيع وثمن، بموجب العقد، ولذا كان حقّ الرّدّ للمعيب مقيّداً بأن لا يقع ما يخلّ بالالتزامات الموزّعة في العقد، فإذا تعيّب المبيع عند المشتري بعيب حادث، سواء كان بفعل المشتري أو بآفة سماويّة أو بفعل المعقود عليه إن كان ذا حياة، فإنّ الرّدّ للمعيب - وهو الموجَب الأصليّ - يمتنع، وينتقل إلى الموجب الخلفيّ وهو الرّجوع بالنّقصان لأنّ شرط الرّدّ أن يكون المردود عند الرّدّ على الصّفة الّتي كان عليها عند القبض ولم يوجد لخروجه معيباً بعيب واحد فقط، ولأنّ في الرّدّ إضراراً بالبائع وهو إخلال بطبيعة العقد، لأنّ المبيع خرج عن ملكه سالماً من العيب الحادث فلو ألزم به معيباً تضرّر، لأنّه إذا كان يضمن العيب القديم لا يضمن الحادث لوقوعه بعد القبض والمبيع بيد المشتري فانعدم شرط الرّدّ، وبما أنّه لا بدّ من دفع الضّرر عن المشتري لمقابلة الجزء الفائت الّذي صار مستحقّاً له بالعقد فقد تعيّن الرّجوع بالنّقصان وردّ حصّة الجزء الفائت بالثّمن. ولم يجعل الحنفيّة والحنابلة في رواية للمشتري حقّ الرّدّ لأنّ المشتري هو السّبب بالعجز عن الرّدّ بما باشره في البيع - أو بما حصل فيه على ضمانه - وفي إلزام الرّدّ بالعيب الحادث إضرار بالبائع لا لفعل باشره " وتقصيره بعدم بيان العيب لا يمنع عصمة ماله " فكان الأنظر للطّرفين هو دفع الأرش للعيب القديم. وعند المالكيّة - وهي الرّواية الثّانية للحنابلة - يخيّر بين الإمساك وأخذ أرش العيب القديم وبين الرّدّ مع أرش العيب الحادث عنده ما لم يقبله البائع بالعيب الحادث. وصرّح الشّافعيّة بأنّه لو حدث عند المشتري عيب سقط الرّدّ قهراً ثمّ إن رضي به البائع ردّه المشتري أو قنع به، فإن لم يرض به البائع معيباً ضمّ المشتري أرش الحادث إلى المبيع وردّ، أو غرم أرش القديم ولا يردّ. فإن اتّفقا على أحد الأمرين فذاك وإلاّ فالأصحّ إجابة من طلب الإمساك. ويجب أن يعلم المشتري البائع على الفور بالعيب الحادث ليختار، فإن أخّر إعلامه بلا عذر فلا ردّ ولا أرش. أمّا الثّانية فهي أنّه يخيّر بين الرّدّ مع أرش العيب الحادث وبين الإمساك وأخذ أرش العيب القديم.
51 - خيار العيب ينتهي بانتهاء العقد أي فسخه، فيكون الخيار منتهياً تبعاً له، لكنّ ذلك يستتبع آثاره أحياناً فيما إذا عاد المبيع المعيب إلى البائع وفيه عيب حادث لدى المشتري. كما ينتهي خيار العيب باختيار إمساك البيع المعيب وأخذ أرش العيب، وهذا الاختيار إمّا أن يقع صراحةً بالقول المعبّر عن الرّضا، وإمّا أن يقع بالتّصرّف الدّالّ على الرّضا، " أمّا غير الدّالّ على الرّضا فيسقط الرّدّ دون الأرش ". وقد ينتهي الخيار بزوال العيب قبيل استعمال حقّ الرّدّ، وفي بعض صور الولاية عن الصّغير وغيره، أو الوكالة، يتعيّن التّنازل عن الخيار لكون الإمساك للعقد أكثر حظوةً وفائدةً، ونظر الولاية والنّيابة عن الغير مبنيّ على الأصلح. ولا يخفى أنّ بعض هذه الأسباب المسقطة إراديّ يصدر من العاقد، وبعضها يجب عليه شرعاً أو يقع دون إرادته، ولهذا تفرّقت المسقطات، لاجتذاب هذه العوامل لها إلى: أ - زوال العيب قبل الرّدّ. ب - إسقاط الخيار بصريح الإسقاط والإبراء عنه، أو التّنازل بمقابل. ج - وجوب ترك الرّدّ رعايةً للمصلحة، بحكم الشّرع. د - الرّضا بالعيب صراحةً. هـ - التّصرّفات الدّالّة على الرّضا.
52 - يسقط خيار العيب - الرّدّ والأرش - إذا زال العيب قبل الرّدّ، لأنّ الشّريطة الأولى لقيام الخيار قد تخلّفت، ويستوي في ذلك أن يزول بنفسه أو بإزالة البائع، على أن يتمّ ذلك في زمن يسير ومن غير إضرار بالمشتري.. ولهذا الزّوال بعض الصّور العمليّة الّتي تعرّض لها ابن حجر في فتاواه، منها: تدارك العيب بزمن يسير يمنع الخيار، وذلك فيما لو بيعت أرض وفي المبيع بذر تعهّد البائع بتركه أو بالفراغ منه في زمن يسير، لا يتخيّر المشتري، كما لو اشترى داراً ثمّ رأى خللاً بسقفها أو بالوعةً.. يلزم القبول، ولا نظر للمنّة اللّاحقة به. ونحوه شراء أرض فيها دفين من حجر أو خشب.. لا تدخل، وتركها غير مضرّ وقلعها مضرّ يسقط الخيار، لكون النّقل ينقص قيمتها أو يحتاج لمدّة لها أجرة " ولا نظر لما في التّرك من المنّة لأنّه ضمن عقد " وهذا التّرك إعراض لا تمليك، فللبائع الرّجوع فيه، فإذا رجع عاد خيار المشتري،فلو وهبها له بشروطه لزمه القبول وسقط خياره ولا رجوع للبائع. زوال العيب بالتّرك من غير لحوق منّة: فيما لو أنعل المشتري الدّابّة ثمّ بان عيبها، فلو نزع النّعل تعيّبت وامتنع الرّدّ، وإن تركه فله الرّدّ وليس للبائع الامتناع عن القبول. وجه عدم المنّة في ذلك أنّ ما يقع في ضمن عقد يكون في مقابلة توفير غرض لباذله فلم توجد فيه حقيقة المنّة،لا سيّما وقد انضمّ إلى ذلك إجبار الشّرع له على القبول فهو كاره له، والكاره للشّيء لا يتوهّم لحوق منّة إليه بوجه من الوجوه.
53 - وذلك بأن تكون المصلحة في إمساك المعيب والعاقد مقيّد التّصرّف: وذلك ما إذا كان في العقد غبطة، أي كانت القيمة أكثر من الثّمن، ولهذا صور: أ - لو كان المشتري مفلساً، لأنّ في الرّدّ والحالة هذه تفويت الفرق على الغرماء. ب - لو كان وليّاً يشتري لمولّيه في حال يصحّ فيها شراؤه له، كما لو اشتراه سليماً ثمّ تعيّب قبل القبض. لأنّ الرّدّ تصرّف ضارّ بحقّ المولّى عليه فلا يصحّ. ج - أو كان عامل قراض ولم يصرّح المالك بطلب الرّدّ، للعلّة نفسها.
54 - ذكر الحنفيّة أنّ إسقاط المشتري خيار العيب إسقاط سائغ، لأنّ الخيار حقّ خالص للمشتري فله النّزول عنه. وهو في هذا يخالف خيار الرّؤية الّذي لا يصحّ إنهاؤه بصريح الإسقاط لأنّه خيار حكميّ ثبت بالشّرع بل يسقط تبعاً وضمناً. هذا عن إسقاط خيار الرّدّ، وأمّا حقّ الرّجوع بالأرش " نقصان الثّمن " فكذلك الأمر يجوز أن يتناوله صريح الإبطال، لأنّه حقّه كخيار الرّدّ بالعيب لثبوته بالشّرط " وهي السّلامة المشروطة في العقد دلالةً " والإنسان بسبيل من التّصرّف في حقّه مقصوداً استيفاءً وإسقاطاً. ومثل الإسقاط في الحكم الإبراء، بأن يبرّئ المشتري البائع من العيب، لأنّ " الإبراء " في حقيقته إسقاط، وللمشتري هنا ولاية الإسقاط لأنّ الخيار حقّه والمحلّ قابل للسّقوط. هذا ولا يسقط الخيار بعوض عند الشّافعيّة، فقد سئل ابن حجر الهيتميّ عن بذل عوض لترك ردّ العيب، هل يجوز كعوض الخلع؟ فأجاب: " لا يجوز بذل العوض في مقابلة ترك خيار العيب، لا من الأجنبيّ ولا من البائع، لأنّه خيار فسخ فأشبه خيار التّروّي في كونه غير متقوّم ". وهذا غير الأرش لأنّه ليس عوضاً لترك الخيار أصلاً، بل هو تقويم لنقصان الثّمن اعترافاً بالخيار وعملاً بمضمونه.
55 - رضا المشتري بالعيب بعد العلم به إذا عبّر عنه بصورة صريحة، كلفظ: رضيت بالعيب، أسقطت خيار العيب، أجزت العقد، أمضيته، ونحو ذلك من العبارات المفيدة للرّضا، فإنّ الخيار يسقط أصلاً أي ينتهي حقّ الرّدّ والأرش معاً. ذلك لأنّ حقّ الرّدّ إنّما هو لفوات السّلامة المشروطة دلالةً في العقد، وإذا رضي المشتري بالعيب بعد العلم به فقد دلّ على أنّه نزل عن هذا الشّرط، أو أنّه لم يشترطه ابتداءً وأنّه لم يشترط السّلامة دلالةً، وقد ثبت الخيار نظرًا له فإذا لم ينظر لنفسه ورضي بالضّرر فذاك له. وكذلك الحال إذا تناول الرّضا بالعيب حقّ الرّجوع بنقصان الثّمن، كما لو انتقص المبيع في يد المشتري وامتنع الرّدّ بسبب النّقصان ووجب الأرش، لكنّ المشتري حينئذ أظهر رضاه بالعيب فإنّ الخيار يسقط جملةً.
56 - الرّضا بالعيب إمّا أن يكون صريحاً وإمّا أن يكون بالدّلالة ومجالها الأفعال " أو التّصرّفات " وذلك بأن يوجد من المشتري " بعد العلم بالعيب " تصرّف في المبيع يدلّ على الرّضا بالعيب. قال الكاسانيّ: " كلّ تصرّف يوجد من المشتري في المشترى بعد العلم بالعيب يدلّ على الرّضا بالعيب يسقط الخيار " والتّصرّفات بالنّسبة لهذا المسقط يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أنواع: أ - تصرّفات استعمال للمبيع واستغلال له وانتفاع منه: 57 - وذلك بأيّ وجه كان دون انتقاص لعينه أو إتلاف له، كلبس الثّوب وركوب الدّابّة " لغير الرّدّ، أو السّقي، أو شراء العلف " وسقي الأرض أو زرعها أو حصادها، أو عرض المبيع على البيع أو الإجارة، أو مداواته واستخدامه ولو مرّةً. فإذا تصرّف المشتري بذلك في المبيع بعد علمه بالعيب فهو دلالة على الرّضا، وهو دليل قصده الاستبقاء. ودليل الشّيء في الأمور الباطنة - كالرّضا - يقوم مقامها. ب - تصرّفات إتلاف للمبيع: 58 - والمراد ما كان على غير وجه الاستعمال، كالتّمزيق للثّوب، وقتل الدّابّة، فمثل هذا التّصرّف لغير مصلحته، ويسقط به الخيار. ج - تصرّفات إخراج عن ملكه: 59 - إذا أخرج المشتري المبيع عن ملكه بأن عقد عليه عقداً من عقود التّمليك كالبيع أو الهبة " مع التّسليم " أو الصّلح، ثمّ اطّلع على عيب قديم فيه، سقط خياره لتعذّر ردّ المبيع إلى البائع، ففي هذه الحال لا سبيل إلى فسخ البيع بين المشتري الأوّل وبين بائعه لتعلّق حقّ المشترى الثّاني بالمبيع، لأنّه بالبيع صار حابساً له فكان مفوّتاً للرّدّ، ولمّا كان امتناع الرّدّ هنا بسبب المشتري فلا رجوع له بالنّقصان أيضًا لأنّ من شرائطه أن لا يكون امتناع الرّدّ بسبب المشتري. والإقدام على هذه التّصرّفات مع العلم بالعيب دليل الرّضا بالعيب وسقوط الخيار من أساسه. ولكن لو فسخ التّصرّف وردّ إليه البيع بخيار شرط أو رؤية " مثلاً " فإن كان قبل القبض فله أن يردّه على بائعه سواء كان الرّدّ بقضاء القاضي أو بالتّراضي " بالإجماع " وإن كان بعد القبض، فإن كان بقضاء القاضي فله أن يردّه على بائعه " بلا خلاف "، وإن كان قبول البائع له بعد القبض بغير قضاء فليس له أن يردّه. 60 - هذا مذهب الحنفيّة - الّذي عليه التّبويب ويندرج فيه الحنابلة - وقد اختلفت آراء غيرهم، فذهب المالكيّة إلى أنّ هذه التّصرّفات إن كانت بعوض فهي مسقطة للخيار: للرّدّ والأرش معاً، وإن كانت بغير عوض فله نقصان الثّمن. ومستندهم فكرة استفادة عوض يستدرك به العيب الفائت. وذهب الشّافعيّة إلى التّفرقة بين تصرّف يحصل به اليأس من عود المبيع للمشتري،كالوقف، فهو مانع للرّدّ، وبين تصرّف يرجى معه العود لملكه، كالبيع فهو مسقط للخيار. وذهب الحنابلة إلى إطلاق الحكم في التّصرّفات كلّها - إذا تصرّف غير عالم بالعيب - فإنّه مانع للرّدّ وناقل إلى الموجب الخلفيّ " نقصان الثّمن " لتصرّفه في ملكه غير عالم بالعيب فلم يكن في تصرّفه دلالة على الرّضا بالعيب فيقتصر أثره على منع الرّدّ.
61 - ذكر ابن رشد أنّه إذا اتّفق البائع والمشتري على حالة من أحوال خيار العيب وجب الحكم الخاصّ بتلك الحال. فإن أنكر البائع دعوى العيب الموجود فإمّا أن ينكر وجود العيب، أو ينكر قدمه. ففي إنكار العيب إمّا أن يستوي في إدراكه جميع النّاس وحينئذ يكفي شاهدان عدلان من أيّ النّاس كانوا، وإمّا أن يختصّ بعلمه أهل صناعة ما، فلا بدّ من شهادة أهل تلك الصّناعة، وفي مذهب المالكيّة خلاف فيما يكفي من ذلك: قيل: لا بدّ من عدلين. وقيل: لا يشترط في ذلك العدالة ولا العدد ولا الإسلام. وكذلك الحال إن اختلفوا في كونه مؤثّراً في القيمة، وفي قدمه أو حدوثه، ثمّ لم يتحدّث عن أجوبة ذلك اكتفاءً بانصياع أحوالها لأصول الإثبات المعروفة.
62 - الدّعوى في العيب والخصومة فيه إمّا أن تحتاج إلى البرهنة، وإمّا أن يعتورها النّزاع من الخصم، ويقع الاختلاف بين العاقدين في مسائل العيب بأنواعها من قدم وحدوث، وهل الرّدّ لعين المردود أو غيره.. إلخ. وفي مذهب المالكيّة والشّافعيّة تفصيلات في تنازع المتبايعين في العيب أو في سبب الرّدّ به معظمها تخضع لطرائق الإثبات العامّة بعد شيء من التّصوّر للمدّعي المنكر. كما تعرّض الحنابلة للاختلاف في قدم العيب وحدوثه، بما لا يخرج عن طرق الإثبات العامّة، لكنّهم ذكروا ما يختصّ بموضوعنا أنّه في العيب الّذي لا يحتمل فيه إلاّ قول أحدهما، وادّعى المشتري كونه قديماً، كالجرح الطّريّ، فالقول قول من يدّعي ذلك بغير يمين. وتفصيل ذلك في مصطلحي: (قضاء، ودعوى).
63 - اتّفق الفقهاء على أنّ خيار العيب ينتقل إلى الوارث بموت مستحقّ الخيار.
1 - الغبن في اللّغة: النّقص، فعله: غبن - من باب ضرب - يقال غبنه فانغبن، وغبن " بالبناء للمفعول " فهو مغبون أي منقوص من الثّمن أو غيره. وغبنه في البيع والشّراء غبناً، وغبينةً " وهي اسم المصدر " أي غلبه، وفي القاموس: غبنه في البيع: خدعه. والمعنى الاصطلاحيّ للغبن مستمدّ من المعنى اللّغويّ نفسه فهو - كما يقول ابن نجيم من الحنفيّة -: " النّقص في الثّمن في البيع والشّراء " ومثله النّقص في البدل في باقي عقود المعاوضات. ومعنى النّقص هنا إذا كان المغبون هو المشتري أن لا يقابل جزء من الثّمن بشيء من المبيع لزيادة الثّمن عن أكثر تقويم للمبيع من أهل الخبرة. أمّا إذا كان المغبون هو البائع فالنّقص في الثّمن حقيقيّ.
2 - للغبن تأثير في كثير من المواطن، غير أنّه أحياناً يناط به الحكم صراحةً، وأحياناً يناط بسبب مادّيّ أشدّ منه وضوحاً، ويكون هو المؤثّر. الوحيد، أو أحد المؤثّرات. فمن المواطن الّتي يؤثّر فيها: المبادلات الرّبويّة بين الأجناس المتّحدة، والاحتكار، وأنواع من البيوع المنهيّ عنها، كالنّجش، وتلقّي الرّكبان، وبيع الحاضر للبادي، والمصرّاة ونحوها من صور التّغرير الفعليّ، والبيع على بيع غيره " أي دخول أجنبيّ بين المتبايعين للاستئثار بالبيع أو الشّراء ". وبيع المسترسل، وبيوع الأمانة، وحالة التّغرير القوليّ المقترن بالغبن، لذا كان من الضّروريّ استخلاص أحكام عامّة في الغبن الّذي تنشأ بسببه بضعة خيارات تختلف المذاهب تجاهها بين نفي وإثبات. وقد اتّخذ ابن قدامة من الغبن مداراً لثلاثة خيارات هي: أ - تلقّي الرّكبان، إذا اشترى منهم - أو باعهم - بغبن. ب - بيع النّجش، بالزّيادة في السّلعة ممّن يعمل لمصلحة البائع دون إرادة الشّراء ليقع المشتري في غبن. ج - المسترسل: ولا ريب في أنّ خيار المسترسل من صميم خيارات الغبن، لأنّه لا تغرير يوجّه إليه، إنّما هي خيانة طارئة من البائع بعدما ركن إليه المشتري فترك المساومة في الثّمن، ولاذ بالبائع ليجيره من الغبن فأوقعه فيه، فهو خيار غبن حقّاً. وتلخيص مواقف المذاهب من الغبن واستلزامه الخيار أو عدمه هو بالصّورة التّالية: الحنفيّة: لا يرون للمغبون خياراً إلاّ إذا كان مغرّراً به على الرّاجح، أو كان غبناً للقاصر. المالكيّة: يقولون " في رأي " بالخيار للمغبون مطلقاً، أو إذا كان مسترسلاً لبائعه. الشّافعيّة: يقولون " في رأي " بالخيار. الحنابلة: يقتصرون على إثبات الخيار لمن كان مسترسلاً وغبن.
3 - الغبن الّذي يردّ به شرعًا هو الغبن الفاحش، والإطلاق محمول عليه كلّما ذكر في مجال الرّدّ. والمراد بالغبن الفاحش عند الحنفيّة والمالكيّة في الرّاجح والحنابلة في قول أنّ العبرة في تقدير الغبن على عادة التّجّار. وإن اختلفت عباراتهم فإنّها كلّها تؤدّي إلى هذا المعنى. وإنّما كانت العبرة بتقويم المقوّمين، لأنّهم هم الّذين يرجع إليهم في العيوب ونحوها من الأمور الّتي تقتضي الخبرة في المعاملات. والقول الثّاني لكلّ من المالكيّة والحنابلة أنّ المعتبر في الغبن الثّلث، والقول الثّالث للمالكيّة ما زاد على الثّلث.
4 - يشترط لقيام خيار الغبن أن يكون المغبون جاهلاً بوقوعه في الغبن عند التّعاقد. وفي تلك الحال ورد حديث حبّان. الّذي احتجّ به بعض القائلين بالخيار " وفيه أنّه هناك اشتراط عدم الخلابة أو الغبن " أمّا إذا كان عالماً بالغبن وأقدم على التّعاقد فلا خيار له، لأنّه أتي من قبل نفسه فكأنّه أسقط حقّه راضياً.
5 - إذا تحقّق أنّ المغبون مسترسل، وكان الغبن خارجاً عن المعتاد فللمغبون الخيار بين الفسخ والإمضاء مجّاناً، فهذا هو الموجب ليس غير، أي إن أمسك المغبون فيه لم يكن له المطالبة بالأرش، وهو هنا مقدار الغبن.
6 - يسقط خيار الغبن " مع التّغرير " عند الحنفيّة - على ما تضمّنته المجلّة العدليّة - بمايلي: أ - هلاك المبيع، أو استهلاكه، أو تغيّره، أو تعيّبه: وفي حكم الاستهلاك تعلّق حقّ الغير. وليس له أن يدّعي بشيء مقابلةً لنقصان ثمن المبيع. ب - السّكوت والتّصرّف بعد العلم بالغبن: فإذا تصرّف المغبون في المبيع بعد علمه بالغبن تصرّف الملّاك بأن عرض المبيع للبيع مثلاً، سقط حقّ الفسخ. ج - موت المغبون: فلا تنتقل دعوى " التّغرير مع الغبن " إلى الوارث، أمّا موت الغابن فلا يمنع.
7 - لا يرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة خيار الغبن في المساومة، وكذلك المالكيّة في الرّاجح، وهم والحنابلة قد اقتصروا على خيار الغبن للمسترسل " كما سيأتي " ولا بدّ من إفراد الحنفيّة والمالكيّة بالذّكر لتحقيق مذهبهم في خيار الغبن. خيار الغبن في مذهب المالكيّة: 8 - اختلف النّقل عن المالكيّة في كتب الخلاف في شأن خيار الغبن المجرّد والرّاجح نفيهم له، والّذي رجّحه شرّاح خليل هو أنّ الغبن لغير المسترسل لا خيار فيه مهما كان فاحشاً. واحتجّ ابن عبد السّلام من المالكيّة للمذهب المشهور " لزوم العقد مع الغبن المجرّد " بحديث «شرائه صلى الله عليه وسلم جمل جابر، فقد قال له مساوماً: أتبيعه بدرهم؟ فقال: لا، ثمّ ثبت أنّه باع بخمس أواق على أنّ له ظهره إلى المدينة». فالثّمن الأوّل بالنّسبة للأخير غبن، ولو كان معه خيار لما أقدم عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم. حكم الغبن عند الحنفيّة: 9 - في مذهب الحنفيّة خلاف حول الغبن المجرّد في بيع المساومة إذا تجرّد عن التّغرير على ثلاث روايات: أ - لا يردّ بالغبن الفاحش مطلقاً " صاحبه تغرير أو لا ". ب - ثبوت حقّ الرّدّ بالغبن الفاحش مطلقاً " بقطع النّظر عن التّغرير ". ج - ثبوت الرّدّ بالغبن الفاحش إن صاحبه تغرير، أي لا يكون الخيار للمغبون مطلقاً، بل للمغبون المغرور، وهو الرّاجح عندهم.
10 - عرّف المالكيّة المسترسل بأنّه: المستسلم لبائعه. أمّا الحنابلة فهو عندهم: الجاهل بقيمة السّلعة، ولا يحسن المبايعة. ويلحظ هنا أنّ المعوّل على الوصف الأخير وهو عدم الخبرة بالمبايعة، أمّا جهل قيمة السّلعة فيقع فيه كلّ مغبون، إذ لو عرف القيمة لما رضي بالغبن إلاّ مضطرّاً، أو باذلاً لقاء رغبة شديدة في السّلعة، وسبق العلم بالغبن مسقط للخيار. وللحنابلة تعريف آخر للمسترسل من كلام الإمام أحمد بأنّه: الّذي لا يحسن أن يماكس، وبلفظ آخر: الّذي لا يماكس، والفارق أنّ الأوّل قليل الخبرة بالمجادلة في المبايعة للوصول إلى ثمن المثل دون غبن، أمّا الأخير فهو الّذي لا يسلك طريق المماكسة بقطع النّظر عن إتقانه لها أو جهله بها. قال ابن قدامة: فأمّا العالم بذلك والّذي لو توقّف لعرف، إذا استعجل في الحلّ فغبن، فلا خيار له.
خيار غبن المسترسل " عند المالكيّة ": 11 - صرّح خليل من المالكيّة بأنّه لا يردّ بالغبن ولو خالف العادة. وأفاد شرّاحه أنّ ذلك هو المشهور من المذهب، وأنّ هناك قولاً بأنّه يردّ، أمّا إن كان الغبن يسيراً فالاتّفاق على لزوم العقد معه وعدم الرّدّ. وقد ذكر ابن رشد في المقدّمات أنّ حكم الغبن يختلف بحسب البيع، ففي بيع المكايسة " المساومة " لا قيام بالغبن " قال ": " ولا أعرف في المذهب في ذلك نصّ خلاف " وبعد أن ردّ على من وهم في حمل مسألة سماع أشهب على الخلاف، عاد فأشار إلى حكاية بعض البغداديّين وجوب الرّدّ بالغبن إذا كان أكثر من الثّلث. وجعله موضع تأمّل، وأمّا بيع الاستنامة والاسترسال.. فالبيع والشّراء على هذا الوجه جائز.. والقيام بالغبن في البيع والشّراء إذا كان على الاسترسال والاستنامة واجب بإجماع، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «غبن المسترسل ظلم». هذا ما استدلّ به ابن رشد.
خيار المسترسل " عند الحنابلة ": 12 - الحنابلة يثبتون خيار الغبن للمسترسل فقط، على الرّاجح في المذهب، وهي من المسائل الّتي اختارها ابن تيميّة من مسائل الخلاف في مذهب أحمد، لأنّ الغبن لحقه لجهله. بالمبيع، خلافاً لغير المسترسل فقد دخل على بصيرة فهو كالعالم بالعيب، وهو مقيس على النّجش وتلقّي الرّكبان، وهناك رواية ذكرها ابن أبي موسى " بصيغة: قيل " مقتضاها أنّ الغبن لازم للمسترسل أيضاً، لأنّ نقصان قيمة السّلعة مع سلامتها لا يمنع لزوم العقد، كبيع غير المسترسل، وكالغبن اليسير.
13 - أثبت هذا الخيار المالكيّة في حال غبن الوصيّ عن القاصر أو الوكيل عمّن وكّله درءاً للضّرر عن القاصر والموكّل، وبعض المذاهب لجأت إلى إبطال العقد المشتمل على غبنهما. فإذا كان البائع - أو المشتري - بالغبن وكيلاً أو وصيّاً. فيردّ ما صدر منهما من بيع أو شراء " أي يثبت حقّ الرّدّ ". وخيار غبن القاصر يثبت في عقد الشّراء اتّفاقاً بين فقهاء المالكيّة، واقتصر عليه بعضهم، فأجازوا البيع بالغبن للصّبيّ أو للمتصرّف عن الغير، لأنّ البيع إزالة ملك، فلا يتحقّق الغبن فيه، ومن ثمّة قيل: البيع مرتخص وغال. فإذا باع القاصر بغبن لا خيار له عند هؤلاء.
14 - هل للقائم في الغبن في مسألة بيع الوصيّ والوكيل نقض البيع أو المطالبة بتكميل الثّمن؟ وكيف لو تصرّف المبتاع في ذلك ببيع؟ أفاض الحطّاب في المسألة ناقلاً عن ابن رشد في فتوى له ثمّ قال: والرّاجح من الأقوال أنّ للقائم بالغبن نقض البيع في قيام السّلعة، وأمّا في فواتها فلا نقض، وأنّ القيام بالغبن يفوت بالبيع " أي فيلجأ إلى تكميل الثّمن "، أمّا مع إمكان الرّدّ فهو الموجب.
15 - ذكر المالكيّة أنّ هذا الخيار يسقط بما يلي: أ - التّصرّف في المبيع. ب - التّلف، أو ما يسمّيه المالكيّة " فوات المبيع " قال الحطّاب: فإن فات المبيع رجع الموكّل والمحجور عليه على المشتري بما وقع الغبن والمحاباة به، فإن تعذّر الرّجوع على المشتري رجع على البائع - وهو الوكيل والوصيّ - بذلك. إن اشتريا بغبن، وفات ذلك المشتري، رجع الموكّل والمحجور عليه على البائع بما وقعت المحاباة والغبن به، فإن تعذّر الرّجوع على البائع رجعا على المشتري وهو الوكيل أو الوصيّ. صرّح به ابن عتّاب وغيره. ولا يتقيّد الرّجوع هنا بالثّلث، فيرجع بكلّ ما نقص عن القيمة نقصاً بيّناً، أو زاد عليها زيادةً بيّنةً وإن لم يكن الثّلث. وهو الصّواب على ما قال ابن عرفة، وهو مقتضى الرّوايات في المدوّنة.
|